أُمُّهُ التي أحببت...


 
في المرات القليلة التي سمح لنا وقتنا باللقاء في مكتبي كان لايخفي عدم رضاه عن وضعه الجديد ؛قدرته على التعبير الدقيق عما كان يضايقه أو لا يروقه كانت تدهشني وتجعلني أنتبه لما أمر به ويترك بداخلي أثرا دون أن أمنح نفسا مهلة للتريث و التأمل.
إتفاقي معه لم يكن مجاراة و لا نوعا من التبعية اليسيرة لأنني لم أحدد موقفي بعد من أوضاع الناس و البلد بل كان أبعد وأشد، ذاك أن سنين الغربة و الزمالة التي جمعتنا كونت تلك الذاكرة و التجربة المشتركة التي تختزل طرق التواصل و تقرب الرؤى.
كان بيننا عدا ذلك أيضا وجه أمه ووصاياها لي . لاأعرف كيف تسللت تلك المرأة لروحي تحديدا لكنني وجدتها بعد أن تغلغلت غربتنا فينا كل مرة ترمي برموز من شفرة شخصيته في يدي وتستأمنني عليه.
تعلمت منها أن حالات الكآبة عنده مثمرة عمليا لدرجة تجعله يتم واجباته ويحقق تفوقا يحسد عليه لكنها تدخله في مايشبه البيت الزجاجي ، يكون مرئيا شفافا وفي الوقت ذاته ينعزل عن الآخرين، صرت أدخل معه الحالة الزجاجية كي لاتؤذيه العزلة وأخرج به منها وهو يحتفل بألقه وشهية الحياة.
أمه امرأة من نوع فريد أكسبها حدس الأمومة وحسها الإنساني قدرة عجيبة على قراءة الوجوه وماخلف الكلمات، كانت تستطيع أن توقد شرارة الإرادة حين يلفنا صقيع الإحباط حتى ونحن نخفي عنها ذلك وأتقنت فن زخرفة الصبر وإقناعنا به ونحن نضيق به ذرعا.
عندما سمعت خطابه القصير في علبتي الصوتية كانت قد مضت عليه خمس ساعات أوأكثر ، باختصار وبساطة قال' أنا لم أجد مكاني هنا ' وفهمت دون أي شرح مايقصد، تخيلت وجهه في المطار وشكل حقيبته و معطفه المنكمش عليها كقط نائم في هدوء.
أمسكت بي قبضة الحيرة بقوة وماأحسست بها تتلاشى إلا وأنا أستحضر وجه أمه تقرأُ عيونها خاطري وتذوب في كياني كقطعة سكر تحيل المُرَّ حلوا.
أكانت تعرف أنه سيغادر؟ أم أنه فاجأها كما فاجأني ؟ تراها تتحمل قراره هذا؟ أم أن لصبرها حدود بعد كل هذ ا العمر ؟...أسئلة ظلت تطاردني وعقارب الساعة تشتبك وتتلاحق و تفترق ولم أجرؤ أن أحمل سماعة الهاتف لأكلمها.
مستلقية على السرير حاولت أن أتخذ موقفا ما ، أن أخرج بقرار ما ، أن أتصرف بشكل ما وأن لاأستسلم لمطاردة علامات الاستفهام.
أصوات عصافير جريئة أيقظتني، انتشلتني من نوم لم أعرف كيف أو متى أخذني من نفسي،أبعدت الستائر عن زجاج النافذة ،ظننت للحظة أنني سأقابل أحد العصافير يتعمد استفزازي لكنني رأيت في الزجاج وجه أمه التي أحببت .
عدت أدراجي مسرعة ، لم أغير ثيابي ولم أفطر حملت مايلزمني فقط .
من المطار خاطبتها ولم أعد أذكر مما قلناه إلا عبارتي:'سنعود معا أو ستأتين لزيارتنا لاأدري ' ورَدَّها :'الله رحيـــم '.
Nassira