زغاريد العودة


زغردت أم يحي وحفيدها سليمان يأتيها راكضا ،لاهثا، صارخا :'لقد عادوا ، لقد عادوا..'
ماكادت زغرودة الجدة تخرج صادحة من الدار حتى تشبثت بها زغرودة أم سليمان وترافقتا معا لتليهما زغاريد بدت تتظافر كأصوات في كورال تلقائي وَحَّدَه الإحساس بالفرح وأيقظ فيه لحن الوجود.
خرج أهالي البلدة في فوضى لم تعترف بالأعمار و لا الأجناس ولا الوقت . الكل يريد أن يقابل العائدين، أن ينثر وردا وحبا وشوقا، الكل يريد أن يحتفل بهم و معهم وأن يحول شمس الظهيرة إلى شمس عيد تدفئ ولا تحرق ، تسطع و تشهد ولاتكشف شيئا أصغر من الفخر.
كم مرة أشرقت ليُظهر نورها وجه الدمار القبيح ،كم مرة تسلقت السماء و الدموع تغسل الوجوه و أبناء من البلدة تبتلعهم الأرض ويواريهم الثرى.
حتى في صباحات الشتاء كان يحدث أن تتلثم بغيمة و تحضر ، ترى ما لاتصوره العدسات، باسم الأمن و التفتيش تمتد يد محتل على جسد بنات البلدة العفيفات و تستفزهن و هن ذاهبات لمعاهدهن وأعمالهن و هن عائدات منها،توقظ انحناء ات الجسد طمع الغريب وينقلب التفتيش لغزل و تحرش ورفض وصفع .
الشمس كانت في كبد السماء وأبو سالم يطلق رصاصاته في الهواء،رصاصات لاتخيف من بندقية سيحملها ويرقص متناسيا آلام المفاصل وآلام كل الأعياد التي تحولت إلى نحيب .
كبح الولد الصغير هرولة أمه وهي تحمل أخته في يد و تجره باليد الأخرى وتبكي دون صوت، تبكي كالحجر حين يتفجر ماء ا و كالجدول حين ينزع عنه سد الحصى.
كانت تعلم أن زوجها ليس مع العائدين لكنها ابنة البلدة قبل أن تكون زوجة خالد و فؤادها سكنه الوطن قبل أن يسكنه رجل قدم روحه للوطن.
أفسحت الجموع الطريق لأحد العائدين ليمر إليها، ضمها بقوة وأخذ ابنها من يدها، حمله وعانقه وقَبَله مرددا : 'يا غالي، ياخالي يا ابن الشهيد ' وضعه على كتفه وعاد لرفاقه وهو يعدها بالالتحاق بها.

خلف الجدار الرمادي كانت إيلينورا تجادل رُويْ ، قالت له أنها ترفض المغادرة وأنها لن تترك مسكنها ومسقط رأسها بأي حال من الأحوال. محاولات روي بإقناعها بغير ذلك كانت تبوء بالفشل الواحدة تلو الأخرى.
قال روي: 'لنا شواهدنا و رصيدنا و أقارب في كل بلاد الدنيا، ممكن أن نختار أي بقعة على الخريطة ونقيم فيها بحرية و سعادة و أمن كما نشاء و لن ينظر لنا أحد شزرا صدقيني ؛ نحن أكبر من ذلك ؛ انظري لنفسك في المرآة ، انظري إلي حتى أسماؤنا لا تشي بأي شبهة ولا أي تعصب '.
سكتت حتى ظنها ستومئ له بالموافقة وردت :'حين طلبت مني أم جميل إجازة لزيارة بقاعهم المقدسة وافقت وأعطيتها أجرتها مضاعفة ،لم أخبر إبننا أنها ستغيب عنا لشهر أو أكثر كي لا يحزن إنه يحبها وأنا أيضا أحبها، حين ودعتني قبل ذهابها قالت أنها ستدعو لي أنا و الجنين؛ أثناء الولادة تذكرتها أحسست أن بركة دعائها تنتشلني من الألم و تساعد ليديا في رحلتها لتكون بيننا، لحظة وضعت الممرضة ليديا على صدري آمنت أن ربي و رب أم جميل واحد وأنها إن دعت لي أو دعوت لها فإنه يستجيب .
هؤلاء الناس بشر مثلي مثلهم ،أيقنت من زمن أنهم ظلموا لست أنا من ظلمهم ولست أرفضهم ولاأعاديهم لن أهرب وأعاقب نفسي عن شيء لم أفعله '.
أحس روي بارتفاع الجدار بينهما و صعد لغرفة النوم ، كان جواز سفره على المنضدة وكان في درج مكتبه في الغرفة المجاورة كل الأوراق التي تخص مشواره الدراسي والمهني.
حين رمى المساء بشباك طمأنينته على البلدة جلس العائدون بين أهلهم في رحابة بيت من بيوت الله وأدركوا مع انطفاء الشمس أن ماينتظرهم يستحق التشاور و الحكمة والرشد.
قال الشيخ حسان :'قبل أن تمتد الأيادي لهدم جدران الظلم عليها أن تبني جسور المحبة و الوحدة و التعاون وأن تطول لتصافح ولاتتطاول طمعا وعدوانا، بحر العطاء الذي لاينضب هو البحر الذي يوصل ولايغرق هو الذي يروي ولا يجرف ....
استرسل الشيخ في حديثه وماأوقفته غير الأعناق التي استقامت والوجوه التي استدارت نحو الباب.
كان غسان يتقدم سامقا، باسما والكوفية تغطي كتفيه و الدهشة تدق أوتادها في قلوب الجالسين.
Nassira