لقاء. قصة للكاتب الأبخازي: جيورجي غوليا.ترجمة:نصيرة تختوخ


الآن عليكم أن تخبروني إن كنتم عايشتم مايلي : تحسون فجأة أنكم تصعدون إلى السماء السابعة و فجأة وفي رمشة عين تهوون على الأرض بكل ماتعنيه هذه العبارة من تواجد في الأسفل ــــ على الأرض.
شيء كهذا حدث لداوْد من قرية غوپي .
ماحدث بالضبط هو الآتي:

كان يمشي بجانب آنطونينا بويسوفنا في إحدى شوارع موسكو العريضة.
آنطونينا كانت قد أتت من كارفايفو من كوستروما إلى موسكو.
كان داود يكلف نفسه عناء الإجابة على أسئلتها.
'أين توجد قريتي يا طونيا؟ ...توجد خلف قريتي جبال و حولها جبال، تلك قريتي! '.
تسأله آنطونينا: 'لا شيء إلا الجبال ؟'.
فيرد: 'لا، لا يا طونيا توجد كذلك صخور و ثلوج '.
آنطونينا:'لا شيء آخر ؟ '.
يقف داود ،يتوسط الرصيف، يحدق في آنطونينا، يغمض عينيه قليلا وكأنه يفكر بعمق فيما قد يميز قريته و بينه بين نفسه يقول :'فتاة كهذه لم أرها من قبل إنها واحدة ممن يمكن أن يقال عنهن ' إمرأة تشبه الملاك '.
تسأله آنطونينا :'لماذا توقفت ؟ '.
تضحك هي التي يُصَغَّر اسمها و تنادى طونيا و ينعكس ضوء الكهرباء على كتفيها .
شعرها من ذهب ووجهها من حليب و دم كما يقول البعض .
هذه الألوان الرائعة تمتزج مع أزرق من سماء المساء و تبدو طونيا أروع و أجمل.
داود الذي كان يمشي بجانبها يقول : 'الآن عرفت ، هناك أيضا سحب مزمجرة ببرق و رعد و بالقرب منا توجد دببة و حتى الظباء تطل علينا أحيانا ، هل تصدقين هذا؟ '.
ويرتسم الفضو ل على وجه طونيا .
كان داود يلبس بذلة داكنة و معطفا أزرقا داكنا واقيا من المطر.
تمنى لو ينتزع ربطة عنقه التي كانت تشعره بالاختناق و قال :' تمنيت لو كنت أرتدي شيئا آخر ، قميصا تشيركيسيا أو بوركا لكن ربطة العنق هذه مزعجة '.
ضحكت طونيا و بدأت تسرع خطاها.

طونيا و داود عادا من اجتماع لوزارة الزراعة.
شارع المنتزه طويل و فسيح .
أخيرا صار بإمكان داود أن يتحدث إلى طونيا كما يشتهي قلبه، في الحقيقة كان هو من أقنعها بهذه الجولة المسائية في موسكو.
الآن ليس بإمكان أحد أن يزعجهما.
طونيا تمسك بحقيبتها اليدوية اللامعة في يدها تستمع إلى داوْد و تضحك.
بعد قليل سيفترقان تعود هي إلى القرية التي تسكنها، إلى أختها ..

داود : 'أختك عصفورة حظ '.
طونيا :'كيف ؟ أنت لا تعرفها ؟ ' ترد طونيا و تبتسم.
تحت ضوء السماء الأزرق تبدو أسنان آنطونينا كسلسلة من قمم الجبال المكسوة بالثلوج في الجنوب .
داود :'أقصد أن أختك عرفت معنى السعادة؟ '
طونيا :'لكن لماذا؟ '.
ينحني داود ويهمس في أذنها :'لأن لديها أختا لطيفة جدا '.
لم تفهم طونيا قصده في البداية لكنها حين بدأت تدك ما يرمي إليه قالت : 'لديك روح دعابة عالية'.
فرد : 'أنا؟ لماذا يا طونيا؟ '.
و ضع يده بحنو على ساعدها وواصلا المشي .
كانت طونيا تساير خطاه و قالت :' لا يعجبني أن أمشي مع أحد و لا تتساير خطانا '.
أحس داود بمعنى عميق في كلامها و اهتز كيانه فجأة كمن يسمع طلقة رصاصة بالقرب منه.
قال في نفسه : 'لنفترض أنني عدت إلى قريتي بامرأة جميلة كهذه ! '.
الفكرة كادت أن تفقده صوابه هو الجنوبي ابن الثلاثين ربيعا ذو الدم الحار.
سيقول الناس في القرية : 'لقد ذهب للمؤتمر و بكل بساطة ويسر و سرعة تزوج من فتاة رائعة '.
توقف داود أمام رؤياه تلك للحظة ،وكأنها أمر واقع و مع بداية إدراكه أنها ليست كذلك حاول استشعار المزيد ..
أراد أن يخبر طونيا المزيد عن قريته فبدأ مجددا بشغف :'قريتنا جبلية تماما، لكن عندنا كهرباء و قنوات مائية و نادٍ و مدرسة.
الطريق إلى المدينة ممتاز و عندنا عدد كافٍ من السيارات .
ماذاتريدين أكثر من ذلك ؟
آه كدت أنسى عندنا نبيذ لذيذ و فاكهة شهية كفاكهة الجنة و أحسن أنواع التبغ ! '.
سألته آنطونينا مرتشعة بسبب طقس تشرين البارد: ' و الشمس ؟ '
فرد :'الشمس؟ يمكننا أن نقرضها لمن يشاء، عندنا مايكفي منها و يزيد.
هل تعلمين؟
حتى في الشتاء الجو دافئ عندنا، لست بحاجة لمعطف سميك إضافي، من يلبس بوركا يمكن أن يؤخذ على أنه شيطان، قميص حريري يمكن أن يشعر المرء بحرٍّ شديد '.
شابة من الڤولغا لم تكن لتقتنع بسهولة بكلامه، لكن الطريقة الحماسية التي كان يتحدث بها داود كانت تبدد كل الظنون .
تنهدت آنطونينا و قالت :'كم سيكون ذلك رائعا ! '.
نظر داود إلى عينيها . كانت خطوط تلمع حول حدقتيها وكأنها مرسومة , تنطفئ و تشتعل.
قال لها :'' هل تظنين أنني بالغت في الحديث عن الشمس في قريتنا ' رغبة منه في تأكيد تصريحاته.
لكن بينه و بين نفسه كان يقول : قد أكون بالغت قليلا لكن هذا لن يضر في شيء '.
واصلت آنطونينا أسئلتها قائلة : 'و ماذا تزرعون ؟ '.
فرد :'كل شيء الذرة مثلا .. '
أضافت هي :'و هل المحاصيل جيدة؟ '.
فرد :'ممتازة '. كان يود أن يقول خمسمائة پو د ( الپو د حوالي 16 كيلو غرام )
لكنه قرر أن يقول سبعمائة پود.
فقال :'في السنة المقبلة سيكون هناك قرابة سبعمائة پود '.
و بصوت أكثر وضوحا أضاف:' سبعمائة پود للهكتار الواحد '.
لم يعد داود يرى الناس و لا ينتبه للسيارات المتتابعة التي تعبر طريق الشارع الكبير.
قلبه و عيناه كانوا موجهين لطونيا فتاة الڤولغا الهادئة اللطيفة.

و هنا يمكنك القول بدون مبالغة أن داود كان في السماء السابعة

ماذا لو أخبرها بما حدث في الأيام السبعة الماضية التي تعرف عليها فيها و عن كل ما دار في رأسه من استنتاجات و تهيؤات؟

لكن طونيا طرحت سؤالا جديدا مستهلة إياه بقولها :'هذا السؤال متعلق بمهنتي، كيف هي أمور تربية الماشية عندكم؟ '.
سحب داود مقدمة قبعته إلى الأمام حتى ظللت عينيه و قال :' في غوبي حتى الدببة بحال جيد، البقر لا يعطي حليبا بل ذهبا '.
ضحكت آنطونينا و هي تقول في نفسها :'كم يعشق هذا الرجل قريته! لكن هذا أمر محمود.
على المرء أن يحب قريته، أنا كذلك أحب قريتي بكوستروما لن أستبدلها بقرية أخرى و لو عرضت علي كل أموال الدنيا.'

لماذا لا يستطيع المرء قراءة أفكار غيره؟ لو كان ذلك متاحا لكان بإمكان داود أن يعرف أن أنطونينا لن تقبل تبديل قريتها بأي مكان آخر، كان سيعرف حينئذ سبب ذلك بكلمة واحدة...

استمرت طونيا في طرح أسئلتها و قالت :'و كم عدد الأبقار في الكولوخوز ؟ '.
رد داود :'مائة و ربما أكثر '.
فقالت : 'عدد مقبول و كم من لتر من الحليب تدر ؟ '.
سألها داود :'أي منها تقصدين ؟ '
و ردت :'لنقل أفضل الأبقار '.
فكر داود قليلا، فغوپي ليست في أحسن حال فيما يتعلق بموضوع إنتاج الحليب ، هو نفسه كرر ,في المؤتمر على مسامع رئيس المجلس, أن عليهم أن يولوا المشكلة اهتماما أكبر فإنتاج الحليب في غوپي ليس على مايرام.
سؤال طونيا جعله يخجل من نفسه، في الحقيقة أفضل الأبقار عندهم يمكنها أن تعطي سبع لترات لكنه نطق متلعثما :'خمسة عشر لترا '. و هو يرفض أن تتشوه صورة قريته بأي شكل من الأشكال.
همس لنفسه :'عندما أعود سنتداول المشكلة، علينا أن نعمل كي يصل ما تدره الأبقار إلى خمسة عشر لترا للبقرة الواحدة. '
طونيا لم تتعجب لكنها واصلت حديثها قائلة :'خمسة عشر لترا؟ هذا قليل ما سبب ضعف مردود أبقاركم لهذا الحد ؟.'
رد داود :'ضعيف ؟ اعذريني لكن كم تعطي أبقاركم ؟ '.
طونيا :'هناك من تعطي حتى خمسين لترا '.
داود :'في اليوم ؟'.
طونيا :'أجل '.
داود :'هل تريدين إقناعي بهذا ؟ '
طونيا :' كيف؟ تعال عندنا لترى و تشاهد ذلك بنفسك '.
أمسك داود يدها بشدة و قال :'سآتي ؟'' .
فردت طونيا :'جيد '.
بدا و كأن اللحظة المناسبة حانت.
الآن بإمكانه أن يبوح بكل شيء و بعد تمهيد بسيط يقول كلما عليه أن يقال.
إرتجف صوته و هو يطرح عليها السؤال كان متأكدا من معرفته لجوابه : ' و هل لن يطردني من منزله ؟ أقصد ذلك..
حملقت فيه طونيا بعيونها التي بدت كبيرة و ساذجة كعيون الأطفال و سألته :'من؟ إننا نتلقى دوما زيارات، هناك من يأتون من الخارج ليروا أبقارنا '.
قاطعها داود :'أنا لاأقصد هذا أنا أقصد إن لم يكن رب المنزل سيطردني '.
كان داود مقتنعا أنا لا سيد بمنزلها و أنها وحيدة ،حرة كعصفورة.
انحنى نحوها قليلا ينتظر إجابتها.
ردت طونيا :'أتقصد كوستشا ؟ لماذا سيطردك ؟ هل تظن أننا لم نستقبل أبدا ضيوفا يبيتون عندنا ؟ '.
انقبض وجه داود، تمزق قلبه ، طارت أشلائه مع الريح في كل الاتجاهات .

هوى داود من السماء السابعة على الأرض.

سألها و أنفاسه محبوسة :'آسف اعذريني لكن من هو كوستشا هذا ؟ '.
ردت طونيا :'زوجي طبعا، هو مهندس زراعي '.
رد داود وكأنه يحاول الحفاظ على ماتبقى من ماء وجهه، متظاهرا بإبداء اهتمامه : 'مهندس زراعي ؟ '
فأكدت طونيا :'أجل مهندس زراعي '.
واصل داود حديثه محاولا إظهار انتباهه قائلا :' زوجان سعيدان، مهندس زراعي و مختصة في تقنيات تربية الماشية '.
عدَّل داود ياقة معطفه و ووضع يديه في جيوب سرواله.
كان خجلا لدرجة أنه لم يعرف ماذا عليه أن يفعل.
سألها :'إن كان مسموحا لي بالسؤال ،منذ متى وأنت متزوجة؟ '.
فردت طونيا :'منذ تلاثة أشهر '.
لم يسألها بعد ذلك أي سؤال آخر.
كان الاثنان قد مشيا حوالي مائة متر حين توقفا أمام مبنى كبير، كانت تقيم طونيا في طابقه الخامس.
أمسك داود يدها الدافئة الناعمة و قال بحميمية :'آنطونينا أنا ليس عندي إخوة و لاأخوات، إذا أردت زيارتنا فمرحبا بك، لكن فقط وأنت معه، يمكنك أن تأتي شتاء ا أو صيفا '.
ردت آنطونينا :'وأنت أيضا تعال لزيارتنا كصديق جيد '.

مشى داود في موسكو الليلية .
ما حوله، ما كان يراه، كان يتسارع . بيوت ، بيوت، بيوت .. بيوت كثيرة .أكثر بكثير منها في مسقط رأسه، في ضاحيته الجبلية.
كلُّ اللَّوم على موظفي وزارة الزراعة، لماذا لم يعقدوا المؤتمر أربعة أشهر قبل الآن؟هل كان ذلك سيشكل أقل بل أدنى فرق بالنسبة لهم ؟ '.

**************************
*جيورجي غوليا من مواليد عام 1917و ابن الكاتب ديميتري لوسيفو فيتش غوليا الذي يعتبر مؤسس الأدب الأبخازي والذي نظم المسرح والصحافة في أبخازيا.
من مؤلفات
جيورجي غوليا روايات : الانتقام ؛أسطورة عمر الخيام ، ربيع في ساكين.