إيذاء الذات والآخر: انتحاريون عرب في أوروبا

العربيّ هو الدمية التي تتلاعب بها المصالح الكبرى للدول الكبرى وتضحّي به لينتشر أشلاءً في كلّ بقعة من العالم.
نشر في جريدةالعرب نصيرة تختوخ [نُشر في 29/11/2015، العدد: 10112، ص(11)]

إلحاق الأذى بالجسد للتخفيف عن النفس أوالوصول إلى يوفوريا/نشوة عابرة، اضطراب نفسيّ معروف يبدأ عند كثيرين في مرحلة المراهقة وقد يستمر معهم إلى مرحلة طويلة ويتحوّل إلى إدمان يحتاج متابعة من الأخصائيين وعلاجاً.
فعدم القدرة على استيعاب الضغط النفسي وترتيب الأحداث، وإخراج العنف المتكدّس بالداخل وإعلانه على الجسد للشعور بالراحة والاستقرار، ولو لفترة قصيرة، وتفضيل الألم الجسديّ على الألم النفسي كلها مسائل تحيلنا إلى المشهد الغائم بالنسبة إلى البعض عن الطبيعة النفسية لهؤلاء الذين يفجرّون اليوم أنفسهم، وقُدرة الآخر على تعبئتهم من أجل القيام بذلك.
من سيبحث في سِيَرِ الذاهبين إلى حتفهم طوعا سيجد ظروف طفولة سيئة أو عدم قدرة على انخراط مُنْتِج في المجتمع أو سلسلة إخفاقات تبدأ بعدم القدرة على الحصول على شهادات تؤهّلهم لشغل مناصب مُرْضية تُيَسِّر لهم الدوران في فلك المجتمع والانتماء
 إليه.
إنّ حاجة الإنسان إلى تكوين صورة إيجابية عن نفسه هي إحدى أهمّ الحاجات التي تضربها عوامل كثيرة في
 العمق وتؤدّي إلى تراكمات سلبية تجنح بصاحبها إلى إلحاق الأذى بنفسه وتدمير الذّات على مدى قصير أو طويل.
العربيّ ابن الضاحية الفرنسية الذي لا يجيد أن يكون فرنسياً، وتنطلق حياته من أحياءٍ مليئة بالمشاكل تُعرِّضه
للتعرف على الجريمة والوصول إلى الفشل مبكراً، هذا الشخص يبدو أكثر قابلية ليتأهل للموت المُخَلّص من عالم
لم يجده مُنْصِفًا.
اليوفوريا التي يحب أن يتخيلها بانتظاره بعد التخلص من جسده المُرْهِق، تعثر كثيرا في
 رحلة الاقتراب منها وصورته تتشظّى بداخله وتؤلمه أكثر فأكثر، هو الأقل، هو الذي يشبه الهندي الأحمر الذي اقتيد
إلى المدارس ذات القناع الدّيني التربوي في كندا وأُرغم على الثقافة الأخرى التي تفرض عليه التخلي عن ثقافته،
 تحتقرها وتُشيطنها وإن كان الفرنسيّ في 2015 لا يشيطن ثقافته ويحتقرها، فإنّه في الماضي لم يأبه لوضع مهاجر
 الجيل الأول الذي جاء غير مزوّد بما يكفي للانضمام لثقافة غريبة عنه، لقد أرضاه أن يعمل هذا الأخير بجدّ ويقبض أجره ولا يتذمر كثيرا غير حاسب حساب الانتماء إلى فرنسا.
مهاجرو الجيل الأول في معظم البلدان الأوروبية لم تكن نيتهم الاستقرار ولا ضمّ أُسرهم إلى عالمهم الجديد.
هذا ما حدث، فيما بعد، وجعل جيلا جديدا ينشأ تحاول الدّولة التركيز عليه، مهمشة مسألة انكسار نموذج الآباء
 في عيون الأبناء، وساحبة سطوة السلطة المرشدة الأولى من البيوت، مخاطبة الأطفال قبل أوليائهم، لتبدأ
الارتباكات التربوية الأولى ويظهر تشوش هوياتي، وثقافة بين بين.
لنذكر أن مرتكبي أحداث تشارلي إيبدو وحتى زوجة كوليبالي هم ممن عاشوا في الملاجئ الفرنسية.
تخطيط: ساي سرحان
العربي الذي لم ينجح في أن يكون مواطنًا مُساويا، بمؤهلاته الضعيفة وطموحاته المادية الأكبر، انتقل من الفاشل الذي يرتكب عمليات تخريبية، يسرق أو يتاجر في المخدرات إلى ممارسة تعطيه قيمة أكبر أمام نفسه. بات يفضّل الآن اختيار طريق الله، ليكون الأفضل بين هؤلاء الشقر الذين لم يكونوا أبدًا نحن وكانوا دائمًا أصحاب الفرصة فيجودون بها أو يبخلون. وبالتالي فهو يرى أن يختار طريقا أفضل. بديلا من الانضمام إلى أصدقاء الكحول والمخدرات ورفاق السرقات الصغيرة، فهو ينتمي الآن للجماعة “الأنبل” التي تعرف ما يحبه الله وما هو الأسلم والطريق المختلف الباعث على خلاص روحي من الضغط والقلق.
العربي الآخر البعيد عنه الذي استيقظ على واقع يسحق كرامته كل يوم ليس بأفضل انتماء إلى وطنه. إنّه أيضًا نفس
 في جسدٍ يفرضها على وجودٍ غير منصف. طريق مستقبله مقطوع بفرص تعاكسه منذ البداية والمطلوب منه أكبر من قدراته حين يحاول التغيير ويعجز كل مرة؛ كما يجد نفسه منجذبا للانحراف لأنّه مناسب أكثر للظروف التي خرج منها، فإنّه
 يكون مؤهلا للخلاص من جسده نحو “الراحة الرائعة الطويلة” التي لم يُمْنَح إيّاها هو الذي لم يَرَ العدالة ولم يجد اليد
التي تساعده.
يد الإنسان للإنسان مهمة جدًّا، تلك التي لا تشير بإصبع الاتهام أو الاحتقار، تلك التي لا تعطى المساعدة المادية
متعالية، أو تلك التي تمنح الفرصة لتحقيق ديمومة الدّخل، تلك التي تساعد على الترميم الداخلي ليمشي المرء في
قامته منسجما مع جسده حتى لا يتحول إلى خزانة قلق وضغط وعنف.
العربيّ هو الدمية التي تتلاعب بها المصالح الكبرى للدول الكبرى وتضحّي به لينتشر أشلاءً في كلّ بقعة من العالم،
 ليت هذا العربي لا يصيب ناشئته بالارتياب في إرثهم الثقافيّ الأصيل فيهوون على فخرهم بالفؤوس.
ليت العرب لا يُجَمِّعون قبضتهم في لكمة يوجهونها إلى العالم بفعل طاقة الغضب التي تتملكهم،
 بل يبسطونها من أجل الترميم والبناء والتصحيح والتربيت على كتف الجيل الجديد، لأنّ تربيته على الكتف هي
 ما ينتظر هذا الجيل، وليس نظرة الإقصاء، هنا وهناك في أرض العرب وكذلك في مهاجرهم/أوطانهم الأوروبية.
كاتبة من المغرب مقيمة في هولندا
نصيرة تختوخ