رائعة الشاعر نوري الجراح "الأيام السبعة للوقت"--نصيرة تختوخ


ندخل ديوان الشاعر نوري الجراح "يومُ قابيل والأَيّامُ السَّبْعَةُ للوقت"ونجدنا بما يشبه كولوسيوم ملتف علينا، ومفتوح على السماء. كُلُّ ما يحدث تشاهده السماء، كل مارأته أبصارنا ونسيته من صور الحرب في سطور الصحف،وتقارير الأعلام يتعاقب ويُعاقِبُنَا أو يجازينا . لنا أن نرى الأمر من الزاوية التي تناسبنا فهل تؤلم التراجيديا أم تمتع؟ تزلزل الحس الإنساني كي يصحو أم تواسي آلامه بتصغيرها أمام الآلام العملاقة؟
''دمُ مَنْ هذا الذي يجري في قصيدتكَ أيها الشاعر؟ ''سؤال الشاعر القاهر المتكرر الذي يقف على مشارف الانفعال الصاعد كل مرة مع المشاهد الموالية له، والتي تحيل إلى الواقع فتهزم القارئ الإنسان.
يقول مثلا: ''الأمهاتُ يُهرعن بالصِّبْيَةِ من حائطٍ إلى حائطٍ، ويخبِّئن العذراءَ في ركامِ الستائرِ
جدرانُ الطِّينِ تتهاوى وسنابلُ الصيفِ تَتَقَصَّفُ...''
فتحاصرنا جدران الإنسانية وتأبى أن تكون كالكولوسيوم الذي استقبلنا ببوابات مفتوحة مقوسة، لأنها ترفض نوم الضمير، ولا تُشَرِّعُ الانسلال المريح.
لاتترك قصيدة "الأيامُ السَّبْعَةُ للوَقْت" مجالا للعودة إلى الوراء، شأنها شأن الوقت نفسه، الذي وإن بدا دوريا متكررا في فصول وشهور لا يعيد نفسه، ولا أحداثه إلا بتشابهات لا تتطابق. تستمر وتتنوع فيها فئات الضحايا. يقول الشاعر :'
'لا مزيدَ منَ الشُّبانِ هنا،
ضِرْسُ الموتِ مَضَغَهم وتَفَلهم إلى ما وراءَ الهضبةِ.''
و''قال فلاحٌ لصبيٍّ كُسِرَتْ رأسُهُ على صخرةٍ:
إنني أسمعُ رَجْفةَ الشتاءِ في رُكبتي.''
''وصلتْ شاحنةٌ كانت بالأمس تحمل البطّيخَ والآن: عائلاتٌ نائمةٌ في أكفانٍ حمراءَ وفلاحونَ صاروا حفارينَ، وقبورٌ قبورٌ قبور..''
القتل لا يوفّر الفلاحين الذين كانوا يزرعون الحياة في بطن الأرض ويُطعمون، لايوفّر طفلا في حماية أبيه، ولا عائلات بأكملها لأنه فردي وجماعي وغير رحيم.
نتذكر المواثيق الدولية ومانقرأه عن الأسف بعد الحرب العالمية الثانية وأكاليل الورود على القبور في أيام الاستقلال وتبدو الحضارة خائبة والتاريخ تواقا للجريمة، إذ لاتنجح كل العهود الناشدة عالما أفضل في إيقاف الموت الذي يصفه الشاعر بأنه "يحمل جرابا". وصف شديد الإيلام إذا ما تذكرنا أطفال العالم أيام الأعياد، وأكياس الهدايا وتخيلنا طواف الموت بجرابه على الأبرياء السوريين الصغار.
عدا الجنود والقتلة والمواطنين الضحايا يدخل اللصوص أيضا القصيدة؛ كمارقين مرعبين جاؤوا مع الهلع والفواجع ليزيدوها دون أن تصحو الأخوّة فزعة لتصرخ: كفى! وتراجع كل نفس راشدة نفسها.
يشير الشاعر بروعة بالغة لإخوة الإنسان في الوطن في خِطَابٍ مؤثر نُحِسُّ أنه لايصل في زمن اشتداد العنف وغليان الانتقام لكنه يبقى مُصانا، سليما، صالحا للأوقات القادمـة، فيعود بنا إلى رائعة الشاعر النرويجي نوردال غريغ '' إلى الشبيبة '' المعروفة أيضا بعنوان ''محاط بالأعداء ''حيث يقول :'' السواعد القوية بيننا تحمل مسؤولية / الغوالي الذين لايتبدلون/ لا يستطيعون القتل / إنه وعدنا / من أخ لأخ / سنعتني جيدا بطبع الإنسان/ سنحرص على الجمال والدفء / كأننا نحمل طفلاً / بكامل الحب على الذراع''.
مايقدمه الشاعر نوري الجراح في "الأيام السبعة للوقت" يتجاوز القصيدة المتألقة في ديوان إلى التحفة الفنية التي لا تولد فجأة، بل يظهر جليا اشتغال صاحبها عليها وانشغاله بها. إنَّها الپانوراما الشعرية التي عبرت بلادا وقلوبا في أيام حرب، وليس هناك من شك في أنها تَحَدَّت مصورها لترفعه بعد ذلك في مرايا العيون وتحفظ الكلام للتاريخ والإنسان والوطن. ''دَمُ مَنْ هذا الذي لَطَّخَ يديكَ وكلماتِكَ أيُّها الأعمى؟ '' آخر سؤال في القصيدة يواجهنا بالسائل الأحمـر ليُتْبَعُ بجواب بليغ يشعرنا بأن للقلب جذورًا مغروسة في الأمل تتشبث به في أوج العذاب، وينتصر الشعر.

Nassira