غابرييل غارسيا ماركيز لا حدود للبقاء الذي فتحت--نصيرة تختوخ

آخرُ ما كتبت عن الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز كان في مذكراتي بتاريخ 14 فبراير من هذا العام،عيد الحب، دوّنت :'' تخطر ببالي قصة لغابرييل غارسيا ماركيز كانت البطلة فيها تعتقد أنها ستموت وعلَّمت كلبها أن يبكي وأن يزور قبرها الذي رتبت أموره بأكملها استعدادا لموت خالته قريبا. شَعَرَتْ بالرضا بعد أن وجدت طفلة تتمنى تبني الكلب وأخبرتها أن عليها فقط أن تتركه يغيب من حين لآخر لينجز مهمّةً ثم يعود.
التصرف جعلني أتساءل عن حاجة الإنسان للوفاء والولاء، عن الحب الذي يبقى بعد الموتى، عن طمأنينة قلب كبير في لحظات عمله الأخيرة .
يبدو أن الحب الذي يتنقل بين القلوب كائن يواسي الأحياء والوجود؛ أن الموتى الذين صنعوا الكثير من الحب يتركون لغيرهم حقيبة إسعاف للأوقات الصعبة وأنهم ساعة الاستنجاد بهم يجيئون بما تأتّى لهم من أدوات ولنا من إيمان ،مآلذي تفعله أيها الحب بالموتى؟''
كانت القصة تحمل عنوان شخصيتها الرئيسية'' ماريا دوس برازيريس '' التي انضمت انضماما مُستحقا لشخصيات ماركيز التي تتحرك وتتصرف لتلبس في الخفاء خطوات تعبر إلى عالم القارئ وتتدخل في أحاسيسه بإنسانية أحاسيسها.
الآن وقد وصلني نبأ وفاة الأديب واستقر حضور الموت في خاطري تصعد الذكريات مع انفعالات تشبه في ارتفاعها وتوقفها المرحلي ملاكا في لوحة لجيوتو يسند خديه بيديه الصغيرتين ويتأمل.
غابرييل غارسيا ماركيز المكرّم بجائزة نوبل وبأي ألقاب أو جوائز أخرى من الفئة النحيلة التي تسلّلت إلى أعماق الإنسان الذي قد لا يكون الأجمل أو الأذكى أو الأكثر إدهاشا ليعلقنا به وينبهنا له كإنسان يستحق كلما يحظى به بعد ذلك من متابعة وانتباه.
هذا الجانب لوحده يعجز كل تكريم في الحقيقة إيفاءه حقه لأنه يجعل الإنسانية مدينة للأدب بإبراز صورها الحقَّة وتلك التي تغيب في زحام التلاحق وسرعة المشاهد اليومية.
الروائي الذي يُدْخِلُ القارئ بهدوء إلى مالايراه في نفسه أو نفس غيره أكثر من ساحر ممتع أو بصير تليق به المكافأة إنه الإنسان الجدير بمروره في هذا العالم ومن يحتم على العالم الإبقاء على ميراثه الكتابي متجددا بالإحياء والاستحضار.
في كتابات ماركيز رهف الإنسان وشغفه، الضعف والقوة، اندفاعه والانكسار والنهوض لأن هناك أيادي تخرج من حيث لانتوقعها لتتجمل اللّحظةُ بالنبلِ والانتقالِ نحو قرار آخر.
من '' ذكرى عاهراتي الحزينات '' :
مع الخادمة داميانا :
ــ''أخبريني ياداميانا إلى أين يأخذك تفكيرك؟ ''
ــ داميانا :'' إلى لاشيء ؛ لكن سؤالك يجعلني أفكر، كنت أحس بضغط على صدري ''.
ــ قُلْت :''أنا لم أُغْرَم أبدا ''
أجابت مباشرة :'' أنا، نعم '' ودون أن تقطع عملها أضافت :'' لقد بكيت من أجلك اثني وعشرين عاما ''
قفز قلبي قفزة صغيرة وحاولت البحث عن مَخْرَج لائق :'' كان من الممكن أن نكون ثنائيا جيدا ''
ــ قالت: '' لكن من الخطأ أن تقول لي هذا الآن ،لأنه لا ينفع في أي شيء ولاحتى كمجرد عزاء ''
عندما أوشكت على المغادرة قالت بنغم طبيعي جدا :''لن تصدقني ربما، لكنني لازالت عذراء لحدِّ الآن ولله الحمد ''.
مع كاسيلدا آرمينتا:
ـ قُلْتُ :'' إننا نشيخ ، كما تعلمين ''
ــ هَمَسَتْ هي: '' لقد صرنا كذلك فعلاً، لكنك لا تحس بذلك من الداخل، الجميع فقط يرون ذلك من شكلك الخارجي ''.
****
من 100عام من العزلة
ملكياديس في زمن خوسي أركاديو:
'' بينما كانت ماكوندو تحتفي باسترداد الذكريات نفض خوسي آركاديو وملكياديس غبار صداقتهما القديمة. نوى الغجري البقاء في القرية. لقد كان بالفعل ميتا لكنه عاد لأنه لم يقوَ على تحمل الوحدة. منبوذا من قبيلته، مجردا من قواه الخارقة كعقاب له لولائه للحياة قرّر أن يبحث عن ملاذ في زاوية العالم الصغيرة التي لم يكتشفها الموت بعد ...''
ميلكاديس في زمن أورليانو:
'' بينما أصبح أورليانو يحرز تقدما سريعا في تعلم السنسكريتية، صار ميلكياديس مع كل زيارة ملموسا بشكل أقل، مبتعدا أكثر، متلاشيا في الوضوح المشع لساعات الظهيرة .في المرة الأخيرة التي سمعه أورليانو لم يكن أكثر من مجرد حضور لامرئي يتمتم :'' لقد متُّ بسبب الحمى في تلال سنغافورة ''.
منذ ذلك اليوم سقطت الغرفة الصغيرة ضحية للغبار، للحَرِّ، للنمل الأبيض ، للنمل الأحمر، للعث الذين حولوا الحكمة في الكتب والمخطوطات مع الوقت إلى نُشارة ''.
لمن فتح عيون القارات على أدب أمريكا اللاتينية يمكن تسجيل الاعتراف التالي بطمأنينة: ''سلاما، أدبك سيعيش أكثر من التسعيني ومن 100 عام وكمن ينجو من زمن الكوليرا ليعيش في مكوث الحب. لن يصير نشارة وسيظل يجني الإعجاب ويتسلل إلى الخيال لتكتب الرسائل التي لاتصل للكولونيل ربما لكنها تُطبع بنبض الإنسان الذي لا تحتجزه الحدود والجنسيات ''.
* المقاطع من الروايات من ترجمتي.
Nassira 18-4-2014