أنا ابنة رجل صالح


لتتدفق الحروف كما تهوى للحديث عن أبي. فبسيرته تطرب الكلمات وتنتشي الطيبة ويتحول ثقل الحسنات إلى فخر مابعده فخر وإلى نور ينتصر لدعاء الفجر.
أبي المصطفى كما تناديه جدتي ومصطفى كما يناديه من يتعاملون معه من جيران وأحباب وأصحاب، رجل من فئة النادرين والعابرين ممن لا تنقطع ذكراهم بغيابهم فاسمه وعطاءه وعمله ونصائحه لاتتآكل مع الزمن ولايطويها النسيان.
رجل أحب الله ورسوله واختار طريق الفضيلة والخير فلم يسكن حب المال قلبه ولا غرته السبل الملتوية أو دروب الزائغين.
اختار التعبد والزهد منذ سنوات عدة، فصام مايزيد عن ست عشرة سنة كان يفطر فيها  في أيام قلائل معدودات من بينها أيام العيد والأيام التي يزور فيها والديه.
قام الليل ولم تفته الصلوات ولا الذكر ولا قراءة كتاب الله الذي ختمه مراراً ومراراً.
لم يعمر والدي تختوخ مصطفى طويلا فقد توفي صبيحة يوم الأربعاء 6 مارس 2013عن عمر يناهز الأربع وستين عاماً لكنه اختزل السنوات وركزها وكثف فيها صلته بخالقه حتى بدا والناس يحكون عن أفضاله وكأنه أقام بينهم دهراً. وفَجَّر في نفوسهم مشاعر اللوعة والحسرة وكأنَّه كنز  إنساني ليس عليه أن يُفقد أو يغيب.
قال أصغر إخوتي وهو يرى المساكين يتوافدون للعزاء:''هاقد أتى أصدق أصدقائه ''. فقد أحب والدي إكرام المسكين وأوصانا دوما بالصدقة.
وقف متشرد أمام البيت يبكي '' ليتني ماعشت لأرى يوم عزائك '' وتحدث عن مروره اليومي للمخبزة التي يمتلكها والدي لأخذ خبز يسد رمقه. سأله أخي أن يبقى لتناول عشاءه فرفض فما استلذ طعم الزاد في يوم مرير كيوم وفاة والدي.
وبكته امرأة أشهدت الملائكة على عمله قائلة:'' ياملائكة اشهدي فإنني مررت عليه جائعة وقلت له ياعمي مصطفى اعطني خبزة مجانا. فسألني: أعندك زوج؟ فقلت : لا.
وأضاف : أعندك أولاد ؟
فقلت: لا، لاأولاد عندي
فأمر أن آخذ كل يوم خبزي من عنده مجانا ''.
سألت أمي من يكون هذا المتشرد الذي يبكي والدي فردت: هو واحد من هؤلاء الذين قدر والدك ظروفهم وكان يقول أن لله حكمته في كونهم على ما هم عليه وأن ذاك الرجل قبل ذلك قال لوالدي:'' يامصطفى إن الله لم يكتب لرجل مثلك أن يبني مخبزا في هذا المكان إلاَّ لحكمة ''.
رغم بساطة فكره ورغم فقره تحدث المسكين بما اقتنع به مصطفى تختوخ دوما.
الله لم يخلقه عبثاً وليس الطمع في الدنيا ما يروي ظَمِئاً طامعا في النهل من أنهار جنات الخلد.
لم يتناول والدي غذاءً أو عشاءً دون التأكد من أن العاملين عنده قد وصلهم طعامهم ولم يجد حرجا في أن يُدْخل ضيفا ضريرا صادفه على أعتاب مسجد أو محتاجا جمعه به ظرف كي يشاركه مائدته.
يوم عزاءه أقام له أحد أصحابه وجيرانه عزاءً ثانيا في بيته وأودع بعض من عرفوه أمانات للتصدق بها ليُجزى عليها ومشى قبل ذلك في جنازته جمع غفير من محبيه وأعز الأعزاء فيهم والده(أي جدي أمد الله في عمره) وبنوه وأخوان من إخوته الذين اعتصر الحزن قلوبهم وهم يدعون له بالرحمة والمغفرة مطمئنين.
لقد عمل أبي لآخرته ودافع عن الحق والعدل في دنياه. لم يخش في الحق لومة لائم ولم يتملق لأحد وماخدعته المظاهر الزائفة يوماً.
اجتمع في عزائه الثري والفقير والأكاديمي والأمي ووصلتنا التعازي من الوجهاء والبسطاء ومن الرجال والنساء.
لقد مات مصطفى تختوخ الذي بشرت به أمه قبل مولده ورأت وجهه وضاءً في استدارة القمر.
لقد غادرنا ومازلنا كل يوم نسمع عن أفضاله وسيرته حكايات لم نعرفها، تقدم لنا التعازي ونتساءل أحيانا متى عرف أبي هذا أو ذاك أو كيف يعرف هذا أو ذاك أبي لكن أحد المعزين أجاب عن السؤال وأطفأ حيرتنا :'' قُلْ  ومن لا يعرف مصطفى؟ ''.
رحمك الله ياحبيبنا وفخرنا، يامن ربيتنا وأوصيتنا بعمل الخير وبالعيش بالحلال الطيب.
رحمك الله ياأبي يامن سعدت بوجودنا وحضورنا وفرحت بنجاحاتنا.
رحمك الله وجعل جنة الخلد مثواك.
 ياروعـة فرحك بلقاء الأخيار والأبرار وياللوعـة فراقنا وشوقنا لصوتك وضحكتك!
سنظل نحبك ونفتخر بك وعلى دربك نسير حتى نلقاك ونقبل يديك الطاهرتين.
رحمك الله ياأعز الناس، ياأغلى الأحبة ياأبي.