المشاركات

عرض المشاركات من مارس, ٢٠١٣

رحلة العثور على أبي

محكومة بموت أبي أكتبُ صدقيَ الشُّجاع وصدقيَ الجريح، ونصوصي التي تجرُّ سطورها كأحصنـة قطعت طرق الشتاء الجبليـة الوَعِــــرة دون أن يستقبلها مرج ربيعي فتستريح. إلى ماخلف الانكسار ومابعد أنَّات الرحيل، إلى استدارات خطوط بصمات بقاء الأب في روح الابنة، إلـى العثـور عليــه. ماسينتشلني من حالة التلاشي الآنـية المسافرة العائدة كموجة فيزيائية هو العثور عليه. أنــا أبحث عن أبي بعيداً عن داره ،عن مشاويره اليوميـة، عن وجوه الجيران وكلام الناس والأوراق الرسميـة. أبحث عن أبي العميق، التَّليد المقتفي آثار الصالحين والشجعان و ذوي الهمم كي أصافحـه ثم أستسمحه لوضع نياشين العرفان بالجميل وأوسمـة المحبة والتقدير على صدره. ''أتيتُ،عثرت عليه وانتصرت '' أقولها بفخر القياصرة والأباطرة ويبتعدُ الأُفق شِبرين. أتـوِّجُ لحظتي بابتسامته وانتصاري وأبكي بعد ذلك قدر انطفاء الأحياء. ببساطـة وبمنتهى الصدق لن أضع إعلاناً في الجرائد أو على شاشات التلفزيون لكني أُعْلِنَها بملء الفاه وكامل الإدراك: أُحاول العثور على أبي خِلْسَةً ، مُتَحَاشيةً يقين الناصحين بعدم وجود اللاموجود . طريقتي في البحث تخصني كما يَ

القُبلة الأخيرة

لن أَنْسَ أبداً القُبلة الأخيرة التي وضعتها على خدِّ والدي. كان الخدُّ بارداً، كالجبين، كجسد الإنسان المنطفئ. بدا أبي بعيونه المغمضة ووجه الهادئ نائما بدون أنفاس وكأنَّهُ وفر جهدها لرحلته نحو الأبدية. عرف الغالي كيف يبقى مُطَمْئِناً حتى وهو في كفن ، وكل المنكشف منه وجهه بُناءً على رغبتنا نحن أصحاب القُبَلِ الأخيرة. مُستريحا، سَمْحَ المحيا استلقى ككل الرجال الذين يعيشون أبطالا فيأتيهم الموت فلا يجزعون. كان أبي إلى أقصى الحدود وجِذْرِي العتيد الذي منه طلعت كي أصير نصيرته وعليه انفصلت وبقيتُ نصيرته. بالقرب من الجسد البارد المكسو بالبياض بكيت أحر أدمعي دون أن أنجح في إقناع الحياة بهزيمة الموت أو أبعث الدفء في خلايا النائم المستريح. رأيت وجهه يُغَطَّى من جديد ليدخل فترافقه صلاة العصر ثم يخرج في موكب. وددت لو أطلق صرختي لتهز المدينة وتشرخ السماء:'' أبـــــي، أبي، لا تذهب ياأبي، لم تكن قُبلتي تلك الأخيرة. لازالت عندي أُخريات لك. لازالت عندي أحلام وأُمنيات أتقاسمها معك. هناك سعادةٌ كبيرةٌ أريد أن أُهديك إياها كل سعادتي لو تشاء، لو تُرضيك، لو تَقْبَل. أنا كريمـــة جدّاً ياأبي وكل كرمي

رسالة إلى أختي الحبيبة وإخوتي الأحباء

 نحن الإخوة أنهارٌ من خير وإحسان نبعت من كرم والدي وحنان أمي. مُختلفون لأن والدينا لم يضغطا أنا أي واحد منا ، منفصلون عموما في ميولنا وشخصياتنا وأذواقنا و متقاطعون مثنى مثنى أو أكثر في بعض سلوكياتنا وهوايتنا. تتوازى مساراتنا و حين لا تتلاقى لانأبـه ولا يجب أن نأبـه لأننا المؤمنون بصحة الاختلاف وجماليـة التنوع وغِناه. إنَّنا الباعثون على الأمل، الواصلون الأمس باليوم والغد. نحن الامتداد السارح متينا كجسر مديد لا تقهره الكوارث وغيرُ ذلك تفاصيل وشوائب ليس لها أن تغير في الأمر كثيراً. تعلمت من والدي أن أقرأ محاسن كل واحد فيكم وأُثَمِّنَها، وتعلمت من والدتي أن أحترم تفرد وخصوصية كل واحد منكم وأيقنت أن ذاكرتنا الجماعيـة أرشيفنا الذي يجب أن نعود إليه كلما تَوَّهَتْنَا الدروب. ليست الحكمة حكراً على من يكبروننا سنا ولا على الرجال دون النساء ولسنا محتاجين لإملاءات من أوصياء. هو سِجِلُّ المحبة الصادقـة والوفاء لأيام الطفولة وأحاديث الصباح والمساء على مائدة كانت تجمعنا، إن أبقيناه مفتوحـا سنهزم الجفاء متى أطَـلّْ ونقمع المسافـة إن راودتها رغبة التمطط. إِنْ قُلْتُ أنَّ حُبِّي لكم هو الأكب

سيدة الرَّبيع

إن لم أكن سيدة الربيع والأمل فماذا سيحصل؟ ستنحني سيقان الزهر ويرحل المطر تحضر مكانه ندف قطنية مبعثرة تتوه قبل أن يشربها الهواء ويكتئب الفصل الوديع يتسلل للتقويم ويسكن بجانب أقحوانة. ماذا أصيرُ إن استقلتُ من تشكيل البسمات وصقل الشجاعة؟ إن ارتمت كلمات المواساة في سلالي ولم أبدلها بتُوَيْجَات السعادة المنشودة؟ مخلوقاً جديداً ربما عابراً كغيره، صامتاً كصورة في إطار أو متحركاً كورقة تدفعها الريح حيث تشاء... لا لن أتنازل عن مشيئتي، عن المشي أماماً، عن مسح دموع غيري قبل دموعي عن سيرة الحنان والرقة والإنسانية. مـرحباً بآذار الذي دوَّن في سجل أسبوعه الأول تاريخ وفاة والدي الحبيب ومرحبا بالغد والسلام والتصافي معه . مرحبا بالربيع الذي طوى شتاءً انسدلت عليه ستارة سوداء هذا العام وغادر وأنا أودع أعز الناس في كفن. كل الترحيب أيضا بكلمات تسقط على صفحتي ولا تخذلني تتمنى أن أرسم بها بنفسجة أو نرجسة وأختار أن أُخرج من ثناياها حمامـة بيضاء وسماءً صافيـة زرقاء ودُعاءً يرتفع ليرافق رفرفة الجناح. سأظل سيدة الربيع ياآذار، فاطْلِق العنان لتغريد الطيور ونبهني صباحاً بوخز شعاع إن غفلت حواسي عن إدراك ماطلع من ج

أكبر من كل الكلمات روعتك ياأبتي!

أكبر من كل الكلمات أن يُشرِّع الإنسان قلبه لإنسانٍ آخر بِثِقَةٍ فيَلِجَه هذا الأخير كالنور مُنْتشراً بدفءٍ وضياء. الواهبون المحبـة والأمـل الممتلئة أرواحهم بالطمأنينـة  يُحَرِّكُون النَّبض بما تأنسُ له النَّفس وتستريـح ، من  يَضِق بهم والرحابة في سلوكهم فينازعـهم يكن الجزع وقفـص المخاوف ساجنه. ليسوا مُنَزَّهين ولا قديسين لكنهم المائزون بمواقفهم واختياراتهم التي وإن أتعبتهم أراحتهم. تختوخ مصطفى كان واحداً من هؤلاء. سكب الله في قلبه مودة الناس والرحمـة فأغفلت عيناه رؤيـة الفوارق الشكليـة وتجاوزتها إلى أصل الإنسان الطيني الذي يمسح معايير التفاضل الظاهرية. كَرِهَ والدي التكبر بكل أشكالـه وأنكر التَّقدير المُبَالغ للمناصب ومقت التذلل والتملق. لم يتلعثم في حضور من حملوا شهادات علمية أكبر من شهاداته أو من تفاخروا بإنجازاتهم الماديـة فهو حسب قناعاته صال وجال ورأى وتعلم وخَبِر الناس من كل الفئات والأجناس فلم يَعُدْ الإنسان يُرْهِبُه أو يُربكه وإن كان بعضٌ ممن ستنال منهم العدالة الإلهية آذوه كثيراً في أيام احتاج فيها لراحة الجسد والخاطر. أذكر على سبيل المثال جاراً دأب على محاربة أبي في مصادر رز

لستني

داهم الموت دورة الحياة وكنت أنتظر الربيع وغزوة النرجس الأولى.غادر بعد أن أودعني دوامة الغياب. أوقفني على هامش الأماني بلا خجل. لستني حين تشرق الشمس ولاتدغدغ فيَّ أدنى إحساس بالوجود ، لستني حين أمشي وترافقني المناظر كلوحات زائفة ، لست سيدة الأمـل وهو يسقط كتفاحة بين يدي ولا أكلف نفسي حتى عناء التساؤل عمَّا يمكنني أن أفعله به. يبتلعني بحر الإرهاق، أنام لأصحو وأتعب سويعات بعد صحوي. ''كُلُّ هذا من أثر خيانة الحياة لي '' أقولها في نفسي كي لا أردد أن أبي غادر الدنيا وما فيـها، أن بطلاً من سلسلة يومياتنا العائلية قد انطفأت شمعته ليبدأ رحلـة الابتعـاد الواقية من اللمسات والنظرات. أصبح المستقبل مقبلاً بفجره وظُهره وأفول شموسه دون صلوات ودعوات أبي وعليه أن يتعود على فراغ غرفته من خشوعها.علَيَّ قبله أن أُقنع نفسي أنه حدث أن باغتتنا سطوة الموت قبيل الربيع وفي غمرة نضال صفرة النرجس للتحرر من قبضة التراب والغشاء الأخضر. بين الزمنين وبعدهما ستسمع الكائنات والسماوات همستي اليومية ''إلى جنات الخلد ياأبتي و رحمة الله الواسعــة'' ولتتعود عليها كطقس ج

أنا ابنة رجل صالح

صورة
لتتدفق الحروف كما تهوى للحديث عن أبي. فبسيرته تطرب الكلمات وتنتشي الطيبة ويتحول ثقل الحسنات إلى فخر مابعده فخر وإلى نور ينتصر لدعاء الفجر. أبي المصطفى كما تناديه جدتي ومصطفى كما يناديه من يتعاملون معه من جيران وأحباب وأصحاب، رجل من فئة النادرين والعابرين ممن لا تنقطع ذكراهم بغيابهم فاسمه وعطاءه وعمله ونصائحه لاتتآكل مع الزمن ولايطويها النسيان. رجل أحب الله ورسوله واختار طريق الفضيلة والخير فلم يسكن حب المال قلبه ولا غرته السبل الملتوية أو دروب الزائغين. اختار التعبد والزهد منذ سنوات عدة، فصام مايزيد عن ست عشرة سنة كان يفطر فيها  في أيام قلائل معدودات من بينها أيام العيد والأيام التي يزور فيها والديه. قام الليل ولم تفته الصلوات ولا الذكر ولا قراءة كتاب الله الذي ختمه مراراً ومراراً. لم يعمر والدي تختوخ مصطفى طويلا فقد توفي صبيحة يوم الأربعاء 6 مارس 2013عن عمر يناهز الأربع وستين عاماً لكنه اختزل السنوات وركزها وكثف فيها صلته بخالقه حتى بدا والناس يحكون عن أفضاله وكأنه أقام بينهم دهراً. وفَجَّر في نفوسهم مشاعر اللوعة والحسرة وكأنَّه كنز  إنساني ليس عليه أن يُفقد أو يغيب. قال أصغر إخوت