الموهبة الصغيرة و شهية النشر

يبتسم أحد زملائي دائما وهو يستشهد بمقولةٍ لوالده مفادها أن الموهبة الصغيرة عليها أن تقسو على نفسها وتثابر كثيرًا. الإبتسامة حسب تخميني ليست نابعة فقط من إستحضار الرجل لوالده وقفز الذكريات إلى المخيّلة بل من اللؤم والمرارة الموجودين في الحقيقة واللّذان يحولناها في بعض الأحيان إلى نوع من الفكاهة السوداء.
المقولة صائبة ولاأشكّ في وجود حكم وأمثلة عربية وأجنبية تقترب منها لكن الإستثنائي والجميل فيها تزويج الموهبة بالحجم؛ فهي بوجودها باعثة على الأمل وبحجمها غير كافية وتتطلب أكثر لتكون مرضية.
لن أدخل في البيداغوجيا وتطوير المهارات أو حتى عمل الدماغ سأمكث في الكتابة لأستمتع بفكرة أن مواهب صغيرة كثيرة في هذه اللحظة تؤلف " نصًّا " . العاطفة مدرارة والعقل لايحتاج لتشغيل عضلاته والتعرق و الكاتب لديه أصدقاء وقد سبق له النشر إلكترونيا و على الورق. لقد تم الإعتراف به بشكل ما، أكثر من ذلك هناك كاتب آخر كتب عنه. يمكن أن يبخل على نفسه لكن الحقيقة كما يراها أنّه كاتب أو شاعر وهذه الصفة الثانية تحديدا عزيزة ومعبرة وتقدّمه إلى زمالة أرتور رامبو وسيلفيا بلاث ونيرودا ولوركا؛ تتجاوز به الحدود إلى العالم الفسيح حتى أنّه قد يحلم كما حلم " أدونيس " بجائزة نوبل, أدونيس الذي شهد للكرسي بأنه الأكثر صبراً من أطراف الإنسان ، وأنه الأبقى.*
الموهبة الصغيرة تجد مايرضيها من التصفيق والترحيب وتُوَفِّر المثابرة وعندما تصطدم برأي آخر أو تحس بالتجاهل فإنّها تهرع للمرايا المكبرة وتحسّ بكُمُون الخلل وتجذره في الآخر الذي قد يعاني من اضطراب ما.
إن " الشاعرة " أو " الشاعر "  بموهبتهما الصغيرة يصنعان بحبكة جملهما الشعرية يبدعانها كما السنفور اللطيف الذي يقدم لأصدقائه هدايا معلبّة تنفجر في وجوههم فيُوقِعُ بهم، ولأنّهم يتسمون بالإقبال لا الحذر فإنّ الأمر يتكرّر.
وإن كان أصدقاء السنفور يغضبون فإن أصدقاء " الشاعرة " أو " الشاعر " يُعجبون بالتعبير الجديد المفاجئ المنفجر في وجوههم. إنّهم يغيبون قدرة الكلمات على التلاشي ويُنْسُونَ كاتبها بأنّ مالايتزود بالإلحاح على البقاء لا يعيش طويلا وأنّ النّشر ليس شهادة جدارة.
ذلك العميق الذي يلفظه صاحبه على الورق بعد أن يحاصره طويلا فيطفو واضحا في النهاية مليئا بمعاناته وحكاياته كجسد أوفيليا، ومن حوله تفاصيل الجمال كالأزهار رقيقة يحركها الماء والهواء لتكاد تلامس ثوب الغريقة وتبتعد، لايتخلص منه صاحبه بمرونة يومية وليس من اهتماماته الأولى رأي الآخر بل الخلاص أوّلاً؛ ولادته الضاغطة المعذبة أو المفاجئة المفرحة تخلق لذّة اللقاء التي تكافئ صاحبها قبل أن يكافئه أيّ مديح أو تتلّقف كلماته صفحات تطل على القراء.

من المحزن أن يرى صاحب الموهبة الصغيرة موهبتة كبيرة فلايراوح مكانه و ينتج كثيرًا من نفس الشيء وأن يجاريه ويحاكيه كثيرون مثله أو حتّى أقلّ موهبة منه فيؤدي الاستسهال إلى إسهال كتابيّ على نطاق واسع يصير القارئ عرضة له.

* قصيدة أدونيس "حالة كرسي ":"أطرافٌ أربعةٌ/ لكن لا أعرف أيّهما/رجلاك، وأيّهما/زنداكَ ، ويبقى/ أن أشهدَ : أنتَ الأكثر صبراً/ من أطراف الإنسان ، وأنت الأبقى "
Nassira 11-10-2015