مدرسة لاهاي صلتها بمدرسة باربيزون وإطلالتها على العالم--نصيرة تختوخ


عندما نتحدث عن حركة فناني لاهاي أو 'مدرسة لاهاي ' في الفن التشكيلي الهولندي فإننا ندير عجلة التاريخ إلى الوراء لنتحدث عن حقبة فنية هولندية غنية بالتعاون والدأب والجمال. وإن كانت اسما ء رمبرانت فان راين وفينسنت فان خوخ أو ربما حتى يوهانس فيرمير الأشهر عند عموم الناس عالميا فإن المهتمين بالفن لايغفلون عن كفاءة وتميز الفنانين الذين شكلوا الحركة الهولندية القريبة من جارتها الفرنسية المتمثلة في '' مدرسة باربيزون ''.
مع بدايات عام 1830 كان نُزْل السيد '' غان '' وزوجته محطةً لفنانين وجدوا في منطقة باربيزون و النّزل ضالتهم التي يبتغون. طبيعة قريبة وثمن إقامة مناسب وتواصل فنيّ أتاح لفنانين فرنسيين فرصة الاشتغال على مايريدون والتقدم في توجههم الجديد. متمردين على الرومانسية لصالح الواقعية التي تكفلها الطبيعة ومنتبهين لأثر تغير الضوء على مدار اليوم على ماينقلونه للوحاتهم من مناظر.
إستطاعت نخبة فناني باربيزون ومنهم '' ثيودور روسو '' و'' ميليه '' و '' دوبيني'' و'' كرو '' جذب غيرهم لذات الميل و طريقة الاشتغال بما أنتجوه وصار يعرض في دولتهم ودول الجوار ويجري الحديث عنه.
عام 1860 سافر الفنان الهولندي خيرارد بيلدرس الذي كان يبحث لنفسه عن نمط فنيّ يناسبه لزيارة معرض في بروكسيل فرأى في لوحات فناني باربيزون التي وجدها هناك ما كان يبحث عنه مجسدا في أعمالهم.
بيلدرس طالب أكاديمية الفنون في لاهاي جمعته صداقات بفنانين آخرين من لاهاي منهم أنطون موف، وهيندريك فيليم ميسداخ وفيليم رولوفس، والإخوة ماريس. تردد هؤلاء على بيت عائلته في أوستربييك ليكتشفوا منطقة مواتية للتحول إلى مثيلة لباربيزون الفرنسية. لم يكن هدف الفنانين الموهوبين هو نسخ عناصر الطبيعة بما فيها من كائنات بل نقل الانطباع والأثر الذي يخلقه منظر طبيعي ككلّ إلى لوحة
*أبقار في المرعى لخيرارد بيلدرس
قد يكون من غير الملائم لطول المقال تناول كل فناني المدرسة على حدى لكن إضاءة بعض الأسماء الفاعلة بشكل كبير في المجموعة ضرورية لتكوين فكرة عامة عن التقاء عوامل ساهمت في نجاح حركة فنية مثلت الفن الهولندي عالميا.
نواصل بذكر هيندريك فيليم ميسداخ الذي يحمل أحد متاحف لاهاي الشهيرة اسمه وفق بين ممارسته للرسم وحبه لجمع اللوحات القيّمة وقد ضم إلى مجموعته أعمالا كثيرة تنتمي للمدرسة الفرنسية التي أُعْجِبَ بها، لكنه لم يتقاعس في إنجاز أعمال فنية لقيت نجاحا وصدى كبيرا أوروبيا كلوحته الحاملة لمنظر بحريّ والفائزة عام 1870 بالميدالية الذهبية في صالون باريس .
 الغروب على شاطئ شخايفنينغ لهندريك فيليم ميسداخ*

من أهم فناني الحركة الذين لايمكن القفز على دورهم وكفاءتهم أنطون موف 1838-1888الذي كان زوجا لإحدى قريبات فينسنت فان خوخ ومعلما له في بداياته . كثيرا ماذكره هذا الأخير في رسائله وعبر عن امتنانه له بعبارات مثل :'' لقد علمني موف أن أرى أشياء كثيرة لم أكن أراها من قبل '' كما ظهر تأثره به واضحا خصوصا في أعماله الأولى.
موف الذي تجاوزت شهرته أوروبا إلى أمريكا ولاقت أعماله إقبالا كبيرا فاز كصديقه ميسداخ بميدالية ذهبية في الصالون الباريسي. اهتدى بعد أوستربييك للارن في الشمال الهولندي ، وقد كان زميله يوزيف إسرائيلس سبقه إليها. هناك واصل رحلته الفنية فتفرعت من مدرسة لاهاي مدرسة لارن لاستقطاب فنانين آخرين.
*شجرة الخوخ المزهرة لفينسنت فان خوخ
تكريما لذكراه أنجز فينسنت فان خوخ عام 1888بعد وفاته لوحة لشجرة خوخ مزهرة أسماها '' ذكرى موف ''.
لم يقتصر إنتاج الحركة رغم ذلك على رسم الطبيعة المتمثلة في المروج وعودة قطعان الماشية أو الأبقار وماشابه ذلك من مناظر فهناك من فناني الحركة الوازنين من تناول الواقعية في حياة الفلاحين والصيادين بتركيز على المشهد الإنسانيّ وأفضل مثال على ذلك ربما هو '' يوزيف إسرائيلس ''( 1824ــ 1911). لقد أنجز إسرائيليس لوحات إنسانية قوية بطابعها الشاعريّ المثير للعاطفة وحظيت أعماله الفنية بإقبال وتقدير كبيرين داخل هولندا وخارجها بل وتجاوزت ذلك إلى إلهام فنانين آخرين كما حدث مع فينسنت فان خوخ الذي استلهم لوحته '' آكلي البطاطس '' (1885) من لوحة زميله التي تعود لعام) 1876 يظهر في اللوحة زوجان وأطفالهما يتناولون وجبة الغذاء المكونة من البطاطس فقط. وبينما يستعمل الوالدان شوكتيهما يأكل الصغار بأيديهم. ( لوحة إسرائيلس لاقت شهرة كبير في معرض باريس لعام 1878 ومثلها لوحات أخرى لم تقل عنها جودة وغنى.
*الوجبة المتقشفة ليوزيف إسرائيلس

*الصياد الغريق ليوزيف إسرائيلس
نساء ورجال إسرائيلس يمارسون الحياة العادية وإن تجلّى فيها طابع الحزن فهو لايظهر بشكل دراميّ مبالغ فيه بل يبدو جزءًا من اليوميّ الممكن. و بهذا فإنه مثّل مدرسة لاهاي, التي رأى روادها شاعرية اليوميّ أكثر إلهاما من الدراميات المبالغ في تمثيلها, بامتياز.الموت كثيمة شبه غائب في أعمال فناني المجموعة وإن كان ظهر في لوحة الصيادين العائدين بزميلهم الغريق في لوحة إسرائيلس مثلا فإن واقعية الحِداد والجانب المؤلم من حياة الصيادين المعرضين حياتهم لأخطار البحر هو المقصود. ما ينجح الفنان في تمثيله بقدراته العالية في استعمال الألوان وتجسيد هيأة العائدين بالغريق وحملهم له.



*على الشاطئ ليان هندريك ويسنبروخ
من النجوم المتألقين للحركة الذين لا يمكن تغييب اسمهم ''يان هندريك ويسِنبروخ'' (1824ــ 1903) المولود في لاهاي والمتوفي فيها. وهو أحد الفنانين الذين رسم لهم يوزيف إسرائيلس بورتريها مثيرا للإعجاب. رغم كون بدايات هذا الأخير لم تلق الاستجابة اللائقة إلاّ أن نشاطه الفني كان حثيثا فبعد إسهامه في إنشاء ستوديو بولشري في لاهاي عام 1847 دأب على عرض أعماله سنويا. أمر أدى للانتباه لها وتناولها أحيانا بنقد إيجابي ومشجع وأخرى بتحفظ وحذر. فينسنت فان خوخ كان واضحا بشأنه إذ كتب عنه في إحدى مراسلاته لأخيه التي تعود لعام '':1889  إنّه فنان من الدرجة الرفيعة .'' 
عام 1900 فاز ويسنبروخ بالميدالية الذهبية في صالون باريس عن لوحته '' عاصفة على ساحل زايلاند '' وقد قام قبلها في نفس العام بزيارة لباربيزون وأنجز هناك بعض لوحاته.
الاعتراف اللاحق بتميز أعمال وينسبرخ جاء في شهادة النقاد من أمثال بلاسخايرت الذي قال عن أعمال أنها لكل الأزمان وللخلود وكذلك في إقبال المتاحف على اقتناء أعماله وتجاوز شهرته للحدود الهولندية لتصل إلى أمريكا وكندا.
الجدير بالذكر أن الحركة التي اعتُبِرَ تشكل جيلها الأول مابين 1860 و 1870 وشهدت أوستربييك بداية نشاطها المثمر والتي تطورت لتشهد ما اصطلح على تسميته بجيلها الثاني مابين 1885 و 1900 وما بعدهما قامت على أسس متينة تستحق التأمل والتقدير.
فقد حرصت مجموعة الفنانين منذ نواتها الأولى على التعاون والعمل الكثيف والإنتاج وكذلك على التفكير الجديّ في العرض ، الأمر الذي أدّى طبعا للتسويق والقدرة على المواصلة. كانت هناك زيارات ملكية منتظمة لاقتناء أعمال الفنانين كما إشترك بعض أعضاء المجموعة ومنهم ماريس وفيليم هندريك ميسداخ وأنطون موف في لجنة تسيير '' جمعية الرسم الهولندية '' التي كانت تقيم معرضا سنويا للوحات الألوان المائية. تناول النقاد لأعمال الفنانين وإن كان غير منصف تماما في بعض الأحيان إلاّ أنه أسهم أيضا في الانتباه لمشاوريهم الفنية وإبداعاتهم.
إلى جانب ذلك كان هناك سند عائلي تمثل في انتماء بعض الفنانين لأسر مهتمة بالفن. نذكر مثلا أن تاكو شقيق فيليم هندري ميسداخ كان كأخيه يهوى اقتناء الأعمال الفنية وقد سهم ذلك في الدعم المادي والمعنوي للفنانين.
تنقلُ المثابرين الهولنديين إلى باربيزون وتواصلهم مع الفنانين الآخرين وخروج لوحاتهم إلى المعارض العالمية كان داعمًا آخر خدم الحركة وخدم سمعة الفن الهولندي الذي لم يأفل نجمه مع أفول القرن السابع عشر ،الذي يعتبره الهولنديون عصرهم الذهبي، بل كتب استمراره باستمرار جهود فنانيه الموهوبين والقادرين على الدفع بطموحهم بعيدا.