التفكير النقدي بديلاًـــ نصيرة تختوخ


 عندما نتحدث عن التفكير بطريقة نقدية فإنّنا نخرج من التخصصّ الضيق إلى المعرفة بمفهومها الواسع. نحتمي من السقوط في الأحكام الجاهزة بالتريث الذي يتيحه التحليل المنطقي واستيعاب الإشكالية أو الموقف بأبعاده المتعددة. التفكير النقدي ليس مرادفا لتفصيل رؤية نقدية ،أدبية أو فنية مثلاً، مبنية على نموذج جاهز بل هو نقيض ذلك تمامًا إن أخذنا بعين الاعتبار جانب التحدي فيه والهدف المتوخى منه كأن يكون إيجاد حلّ لمجموعة مشاكل أو العمل على تطوير منتج ما أو السعي للحصول على الأفضل بشكل عامّ.
  إنّه عكس الجنوح للكسل العقليّ وقبول الاستنتاجات الأولى التي تتبادر للذهن بما فيها من راحة وتوفير للجهد. ولهذا فقد يكون مستفزًّا ومنفرًّا لكنّه بالتأكيد ذو أهميّة قصوى في التقدّم وتجاوز الفشل.
إذا عدنا لمرحلة الطفولة التي يسميها البعض بمرحلة '' لماذا '' (مابين السنتين والثلاث سنوات قريبا) حيث يكتشف الطفل '' لماذا '' كأداة استفهام بوسعها مساعدته على فهم العالم من حوله. فإنّنا نصادف محاولات الفهم الأولى والانتقال المبكر لرؤى وافكار الكبار السابقين إلى المُسْتجدّين الصغار.مراجعة بسيطة ولو بتأمل عابر لنقاش أو محاورة حديثة بإمكانها أن تكشف لنا استخدامنا السريع لرصيدنا من النتائج المُكْتَسبة اجتماعيا ومن المعلومات التي تسربت إلى أذهاننا و قد لا نذكر متى وأين لكنها بالتأكيد لم تتركنا محايدين ووجدنا فيها ما يناسبنا.مع ذلك فإن بعض الاختبارات البسيطة كتلك المتعلقة بالخدع البصرية أو المسائل الرياضية التي قد تبدو لأول وهلة بديهية تكشف لنا سهولة ارتكاب الخطأ بتسرعنا في إصدار الحكم.عدم التوقف للتأمل واستخدام المنطق والتحليل يضيّع علينا فرصة صياغة الإجابة الصحيحة .أمثلة:


الأمثلة توافقها الأسئلة:
1.أيّ البابين أطول؟
2. أيّ القطعتين أطول؟
3.هناك دائرتان في الوسط أيهما أكبر؟
*القياس يفضي إلى تساوي أبعاد الأشكال .

الحذر في التقبّل والمسارعة بالحكم خطوة أساسية من خطوات التفكير النقدي.
من يعتقدون أن مسألة الخداع البصري بعيدة عن تورط الفرد في خيارات وقرارات جدية خاطئة أو أنّهم بعيدون عن السقوط كفرائس للتضليل الذكي بلا شك واهمون ويكفيهم كمثل بسيط الانتباه أو البحث في طرق التسويق الحديثة وتأثيرها على سلوك الشراء. الرحلة نحو الاقتناع وتشكيل الموقف والرأي ينفعها ولايضرها أن تطول وتمر بالمقارنات والتحليل والمراجعة وتجاوز الثقة العمياء إلى النقد الصحيّللأسف فإنّ تحول الاقتصاد لمحركٍّ لدمى السياسة والثقافة لايخدم توجه الفكر للمسار الصحيح بل أن تشويه مساره يستحيل هدفا منشودًا لخدمة الأرقام التي تصنع الربح المادي وتحقق الغاية الاقتصادية.نسبة المبيعات، نسبة المشاهدة، الشّعبية، المعجبون،المتابعون...مفاهيم أصبحت تستبيح اللعب على العاطفة والغريزة والموروث الثقافي لإثارة التعاطف والحماس وتحقيق نجاح الخطاب المهيمن على حساب احترام الخصوصيات الفردية والاستثناء ودعم التفكير المتحرر لصالح توجيه التبعية الفكرية. المستسهلون لتوزيع مواقفهم وأفكارهم السريعة ناشدين بذلك إعجاب الآخرين ليسوا في كثير من الأحوال إلاّ مشجعين بامتياز للخمول الفكريّ ومحفزين لتنامي عقلية القطيع.فليس من السليم مثلا أن يتحول المشاهير والإعلاميون الذين يدخلون عوالم غيرهم بصورهم وكلماتهم الرنانة إلى مفكرين يعفون غيرهم من القيام بالمهمة أو موزعين لدليل الحياة الذي يتاح للجماهير أن تتبعه بأريحية. إن كان لهم أن يساعدوا في تطوير فكر المجتمع أو ارتقاء أشكال الحياة وتصحيح السلوكيات المضرّة فإنّ ذلك يجب أن يكون بعيدا عن التحريض العاطفي والغرائزي أو تنصيب أنفسهم كقابضين على الحقيقة. دعم المواقف بالتحريض والشحذ واستنفار العاطفة والغريزة ليس في معظم الأحيان وسيلة للوصول إلى الحل أو حتى جزءًا منه، إذ أن الكثير من المشاكل الموجودة على أصعدة مختلفة تستلزم التفكير فيها بشكل عقلاني كما يجب أن ترافق أيّ رؤى لحلّها طرقٌ تكفل تقييم الحلول
التفكير بطريقة نقدية يتجاوز جرد المُعطيات والاستسلام للنمطية التي تغرقنا في التكرار واللاّجدوى إلى الفعالية المقنعة والمرغوب فيها.المسألة أعقد من مهمّةً تُلْقَى على عاتق '' المثقف '' أو '' المتعلّم ''في مرحلة متأخرة بل هي ممارسة يجب أن تجد لها فسحة كافية منذ '' لماذا '' الأولى التي يشترك فيها الصغير والكبير في التّواصل وتأمل الموجود. مشوار يبدأ بالتهييء والتهيؤ للإصغاء والتواصل وتحرير الحوّاس عوض محاولة الإيقاع بها وخداعها أو طمرها في نماذج نمطية مُكْتَسبة لا يطرق التغيير بابها.من يقدمون نفسهم وكأنّهم يأخذون على عاتقهم تقديم '' الأناقة '' أو '' الأدب '' أو '' الفن '' أو حتّى المفيد بشكله الفضفاض لهم دومًا أن يتذكروا أن احترام الفرد يبدأ باحترام خصوصيته وتميزه وقدرته على خوض تجاربه وتشكيل ذوقه دونما حاجة لاستنساخ طباع وتجارب وأذواق الآخرين.الحضّ على التفكير عوض إمطار المتعلم أو المتلقي بالتأويلات أو النتائج الجاهزة، السعي لتمرير الخطاب دون محاولات تغييب الوعي والإدراك لصالح تهييج السلوك وجعل الانفعال قائدا من علامات احترام الآخر وعدم تقديم الذات بنرجسية بما في ذلك من تعال وتجاهل لقدرات الآخر على اتخاذ موقفه المستقل.من المؤكد أنّ التعليم كقطاع يهدف إلى تكوين الفرد وتزويده بما يلزم لأداء أدواره المُنتجة والنافعة يلعب دورا هاما في تبني طرق التفكير الدينامية والخلاّقة لكن لايجب أن نغفل عن تلك الأدوار الكثيرة الصغيرة التي يتحوّل فيها كل فرد إلى مسؤول عن تقدّمه وتطوره الشخصيّ. فالسعي للفهم والتّعلم دأبٌ إنسانيّ ليس ينحصر في مجال محدّد أو يتقيد بعمر معيّن بل كان على الدوام من الممارسات الإنسانية الحميدة المنسجمة مع طبيعة الحياة وتاريخ الإنسان الذي لايكتفي بالاستسلام للماضي أو الانغراس في الحاضر بل يجعل المستقبل هدفا في مجال رؤيته . كون النّخبة المتعلمة الواعية مُطالَبة برفع مستوى الوعي والتفكير لايعني قيامها بالتلقين وإنتاجها لخطابات نخبوية فقط بل يشمل انخراطها في تواصل تشاركي ،بعيد عن التهكم والمحاكمة والتحقير، يتم فيه طرح و تداول الأفكار بانفتاح يعرضها للنقد. وهذا يحسب للفِكْرِ الذي تتاح له فرصة الاستفادة والتقييم الذي قد يدفع للاستيعاب والتبني والتقبل أو الرفض والعمل على نشوء توجهات وأفكار بديلة.
Nassira  16-5-2015