عن قصيدة 'صياح البط البريّ' لبدر شاكر السياب--نصيرة تختوخ

بدايةً حدث أن امتص الغياب العالم فلم يبقَ غير الظلام والفراغ، يمكن كنس كل شيء من الغمامة الكبيرة التي تحبسها جمجمة القارئ وكبح أيّ سؤال حول إحداثيات العدم، الاستسلام للانتظار هو المبادرة  الموالية وماأن تنجح حتّى يصيح الدّيك، صوته إشارة انبعاث الزّمن والعُمران ومايسترو النّور. هُوَأوّل الحاضرين أو أوّل الباقين في الأبدية ومن ثمّ  الثِّقة في الاستمرار كما يأتي معه.
 ستقف أُطر الأبواب، وتنمو البيوت دفعة واحدة. تصلُ وعيها وتكشف بشبابيكها مبايعتها للحياة. وما الحقول أقلّ عزمًا ولاهي إن نوديت لا تستجيب؛ تعرف كيف تطوي المسافة وتقترب، تَتَابع فيها الأشجار حتى تقف آخر واحدة عارضة نفسها وفي أحضانها الثّمر. الوقت تفصيلٌ متحرك وعندما يبلغ الضحى تكون حالاتٌ كثيرة مفضوحة بيُبسها وضعفها وعطشها.عادت في النهار الآخر بهشاشتها ، في جذورها أمل يتوسّل. بعيدًا عنه ــ من أجله شموعٌ تدفع جسدها قربانًا كي لاينطفئ.
 كلّ ما سبق هيّأه بدر شاكر السّياب بعناية وعرفانٍ فيه تبادل التأثير والتأثّر بين الكائنات وتموج وتواصل أشكال الحياة.
سرده بالمَشَاهِدِ الشعرية لاخُرَافة فيه ولا مخلوقات ماورائية؛ تنسكب أحداثه كما الحليب في لوحة يوهانس فيرمير، نرى الفتاة تسكبه ويبقى العجب، كيف أوقف الرسام الزمن في حركة الحليب وكيف دحرج الشاعر الزمن والحركة والصوت كوِحْدَةٍ منسجمة؟
*الفتاة التي تسكب الحليب ليوهانس فيرمير
لقد كان واقعيًّا ومافعله بالكلمات أَنْ جَعَلَها متناسقة مع رهفه والدرجة التي بلغها فجعلته من فئة الإنسان المهدّد بحوَّاسه. حين يحرّر صياح البطّ ويطوي فيه رسالته الأذكى من الغبن والفشل، الأحنَّ على البتلة الآملة، يبقى منسجما مع الطبيعة ذاتها يزيدها فقط مايشهد له بالاستثناء.يعود إلى الطير بجِدَّة مع  فصيلة كان يمكنها أن توجد لتساهم في جمال القصيدة فقط لكنّه أحدثها وكلّفها.
'' ستمطر '' تُصبح إرهاصا نقرأه في صياح البطّ. مايحدث بعد أن تشرب القصبة والختمية والعشبة، التي لا يميزها اسم، يقع بعد القصيدة. في زمن القصيدة قدّم لنا الشاعر وعد الحدوث واستبصار البطّ كأمْرٍ أهم  انحازت به القصيدة نحو المستقبل وبه لمسنا قوّة إبداعه أكثر. وإن كان الشاعر صعد إلى منصة الفنّ من أوّل بيت في القصيدة فإنّه في أواخرها مع صياح البطّ يلّح على انتمائه للأوفياء للرقّة، من يستوعبون العاديّ   كطوفان هائل ويُخرجون الاستثنائيّ من وحي بعضه.
Nassira 10-6-2015