عن فيلم '' أغنية البحر ''ــ نصيرة تختوخ--

إنّه الشعر في الصورة المتحركة، عاطفة الخيال بعد أن يزيح عنها المبدع السِّتار لتأخذنا إلى حضنها، الأسطورة بأنشودة النوم في جرابها، ولن تكفي أوصاف كهذه، لن يسعفنا إلاّ الخوض في مزيد من التفاصيل مرفوقين بكريات من نور للذهاب إلى '' أغنية البحر '' التي أبدعها الرّسام والمخرج الإيرلندي طوم مور.
مع الصغيرين '' بِنْ '' و '' سيرشه '' ندخل عالم الميثولوجيا الكِلْتية الإيرلندية ليرحبّ بنا بموسيقى تبلسم الروح ،كانت نتاج تعاون بين المؤلف الفرنسي
 برونو كولي و فرقة كيلا الإيرلندية، وكائنات غامضة تجتمع في وجودها الثلاثية الحائية: الحزن والحب و الحرية.
تعيش الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والطفلين ،في بيت يجاور منارة بالقرب من البحر، ناقصة بعد أن تغيب الأمّ ''برونا'' التي قصدت البحر مستشعرة آلام الولادة فاختفت ولم يظهر من أثرها إلاّ الوليدة '' سيرشه '' ملفوفة في ثوبها الأبيض على الشاطئ.
تكبر الطفلة في كنف والدها مع أخٍ يعاملها بقسوة ويتجاهلها باللّعب مع كلبه الضخم ''كو''. تبلغ عامها السادس خرساء لكنها بالتأكيد تعي ماحولها وسرعان ماستكتشف انتمائها الآخر.
كانت الأم '' برونا'' ترسم مع ابنها، تغني له وتحكي له عن شخصيات متعلقة بعالم البحر وماأهديته إياه قبل غيابها ينسجم مع ممارساتها معه، إذ كان صدفة يمكن العزف عليها أيضا.
عندما ستقع الصّدفة بين يدي '' سيرشه '' وبعد أن تعزف عليها ستصل إلى الرداء الأبيض وتعرف مشوارها المصيريّ إلى البحر. الطفلة الخرساء كوالدتها من '' السِّيلكي '' .
في الفلكلور الإيرلندي ودول مجاورة أخرى فإن '' السيلكي '' مخلوقات ميثولوجية تتميز بقدرتها على التحول من هيئتها كفقمة إلى هيئة بشرية ومما لاشك فيه أن هذه الكائنات وطبيعتها دخلت في تراجيديات تراثية وقصص مكتوبة كثيرة.
طبيعة الأشكال والرسوم ومجريات الأحداث في '' أغنية البحر '' متحدية بجِدِّة ورقّة لتوقّع ونوعية المشاهد.
توريط جمهور الأطفال في التماهي مع شخصيات وعوالم منها المألوف لديهم والجديد عليهم لينخرطوا في مشاهدة دون ملل حتى النهاية ليس بالأمر السهل إذا أدركنا عمق التعقيد في قصة فيلم '' أغنية البحر '' وشخصياته. فالطفلة البطلة مثلاً تظهر في معظم الفيلم خرساء مما لايتيح لها التعبير عن انفعالاتها بالكلام، والصورة التي تظهر بها الجدّة المشابهة للبومة '' ماكا '' قد توقع المشاهد الصغير في مصيدة الغموض وتَعَذُّرِ الفهم والفصل المريح بين '' الطيب '' و'' الشرير ''، وينضاف إلى ذلك مثلاً إخراج فئة المشاهدين الصغار من إرباك ظهور الأمّ وغيابها وتحويل المشاعر المصاحبة لذلك إلى الإيجابية .
الرهانات بالنسبة لجمهور الراشدين ليست بالتأكيد أيسر، فإلغاء محاولات التوّقع وفتح فضاء الخيال بخلق المفاجأة شأنها شأن استثمار صناعة الدهشة بكثافة لشدّ الانتباه، أمورٌ تتطلب الكثير من الإبداع والتنسيق. التفوق على المنطق الجاهز بتقبل منطق جديد يصير فيه الخياليّ حقيقيّا والتّعارض مع الواقع مسموحا به لايتأتى إذا لم تكن هناك براعة في تهييء المتلقي لاستقبال الجديد الدّخيل وتطويع فنيّ لرغبته في الاستسلام لسحر العمل الإبداعيّ المقدّم له.
المخلوقات الميثولوجية الأخرى في الفيلم هي جماعات '' السِّيدْ '' المهدّدة بخطر انتزاع انفعالاتها منها وتحولها إلى أحجار. الأمر التي تقوم بها البومة '' ماكا '' ومساعدوها، هنا للمتلقي أن يتأمل الفكرة المطروحة بما شاء من عمق ويتوقف أمام صلة الانفعال بالحياة وماهية الطبيعة الانفعالية عند الإنسان وغيره من الكائنات بل وحتّى أثر ودور تراكم المشاعر عند الفرد.
أغنية البحر تأتي على عكس التعبير العربي '' لو أن الفتى حجر '' فالعملاق ''ماك لير '' , إله البحر في الميثولوجيا الإيرلندية،يستطيب ورفاقه التحرّر من الهيئة الحجرية التي وإن حرّرت مِنَ المشاعر والانفعالات فإنّها أعاقت السعادة والرحلة نحو العالم الآخر.
للمشاهد العربيّ أن يكتشف الأنوار والألوان المنبعثة مع غناء السيلكي الصغيرة وأن يستمتع بتفاصيل جميلة كثيرة تناغم فيها الإبداع مع الإتقان في فيلم '' أغنية البحر '' وأن يحلم بأن يرى حكايات من ثقافته الشديدة الغنى متحولة بالفن إلى أعمال تحقق المتعة البصرية والتقارب الإنساني وتحمل رهانات بحجم روعتها وتميزها.
 Nassira 3-6-2015