حديديّون للنحات عاصم الباشا

الحديدي: المنتظر
ينتظر وينتظر وحتى وإن أتى ماسيأتي لن يتغير شيء، سيظل على وضعه، جالسا مسنودا بيديه إلى الخلف متنازلا عن ملامحه بزواية وجهه. يتلو انطباعه صامتا لمن يحاول الاجتهاد ليقرأ.
رأسه المتقدم على رقبته، المائل قليلا مثيرٌ لحزن قد يحمله الرائي وينتهز فرصته للطلوع.
فيمَ يفكر؟ الحقيقة تقول أن الفضول يجب أن يُكبح لصالح التعلّم من التّأمل. إنّه آخذٌ وقته ومن وقتنا معه نرى البطء المؤلم في الإنتظار والدأب على الأمل. سيحدث شيء ما ، سيحدث لأن الحركة في عناصر أخرى مستقلة عنّا تؤدي إلى حالات جديدة.
الحديدي المثير للفرح:
  إنّه حديدي يركض متحررا من الوجه ، مستفيدا من هيأته وشكل ساقيه. رافعا ذراعيه إلى السماء، طاويا يديه المثلثتين إلى الخلف يوقظ الإحساس بالطفولة الكبيرة، بالدعابة التي تغيب عن الراشدين وقد اجتاحتهم الأعراف وقلّمت نظرات الآخرين وأحكامهم التهور فيهم . مثيرٌ للحبّ كما أنجزه النحات عاصم الباشا ونجح في تجسيد اندفاعه وتوازنه واقفا رغم مايوحي به من حركة. ينتزع منّا نظرة الودّ ليصرفها لنا شعورًا طيّبًا بالفرح ونفض ثقل العبء اليومي لصالح انطلاقة بحبّ نحو لحظة سعيدة.
الحديدي الثالث: تكوين
انتبهت لظلّه في الصّورة وتذكرت الشّاعر الذي قال أنه ميتا سينام يدًا في يد مع ظلّه. الشكل الواقف أمَامي لاينام مع ظلّه، ظلّه يتبعه. يقف صامتا ويتحدّثُ بهيأته الجديدة التي لم يسبقه لها شكل معروف آخر.
رأيته أولّ مرّة يشي بقُبْلَةٍ ، وأظن الفنان سمّاه تكوينا أو بداية تكوين والحقيقة أنّي أرى البداية التي لاتنتهي.
الوقت يسيل والحركة المتشكلّة المحافظة على حالتها تبقى تُوحِي ولا تُكْمِل. البُعد فيها وفي المُتلقي الذي قد يكون كلّ مرّة جديدا و قد يكون واحدًا مثلي يعطي لخطابها كلّ مرّة فرصة.
كونها من حديد يجعلها بالنسبة للبعض أقلّ جاذبيّة من منحوتة من رخام مثلاً وسذاجة العين معروفة تودي بصاحبها إلى الذوق العامّ ومعظم أسرار الجمال تختبئ وتسكن في مناطق أعمق من نظرة عابرة أولى.
الجميل لفترة أطول هو مايُعيدنا إليه وهو مالايكتفي بإعجاب لحظيّ بل يصنع له استمرارًا.
اشتغال الفنان على الحديد منح العاطفة فُرصتها كي توجد وتظهر وتبقى مجسدّة. المرونة من الاثنين أعطت التوافق الواقف، والفراغ في وسط النتيجة النّهائية يهمس ببلاغة الرّقة التي تحتاج التقارب والمسافة.
الحديد الإنسانيّ الذي نشأ على يديّ النّحات بانسيابيته وتموّجاته يقترب ويعلو ويستدير، يتصل دون أن يُشْعِرنا بضغطه على بعضه، بدفع طرفٍ له لطرف. إنّه يتوازن في قُبْلَتِه أو انحناءته ليكون الجمال عادلاً يمينا ويسارًا.
ينتصر النحات لضعف طبيعة الحديد وينقله من وحش الصدأ إلى حنان الطبيعة المُمْكِنِ معه. الشكل الذي تقوّى بالرّحمة يعكسها، لايبخل بالعاطفة في تعبيره.
قد يقول شخص: ''إنّه مُجَرَّدُ شيء ''أو مجموعة أشياء لو أضفنا المنجزين السابقين والتعبير قريب من الدّقة، إنّه شيءٌ لم يعد مجردًّا منذ أن أنجزه الفنان ومنذ أن رأيته.
Nassira Takhtoukh 30-12-2014