نظرة على حرب وتربنتين لستيفان هيرتمانس --نصيرة تختوخ--

نظرة على حرب وتربنتين لستيفان هيرتمانس --نصيرة تختوخ--
'''' الذي رأيناه أمامنا ذاك الصباح في الشفق وخارت لهول منظره قوى الجميع : حشد من الكلاب والأرانب والقطط وأبناء عرس وفئران الخيل والجرذان بأنوفها بالكاد فوق سطح الماء تسبح كجيش من غير عالمنا. بأنوفها الحساسة صارت مثلثات غير معدودة تتقدم في مساحة الماء الناعمة السوداء. فتحت قنوات جر المياه في نيو بورت وحتى ستاوفنس كيرك ،بيرفايز، تيرفات وسخورباك فإن المياه علت الأرض. لقد أدركنا ببطء أن تقدم العدو سيتوقف لهذا السبب. بقلوب تخفق بقوة وقفنا نشاهد المنظر. كان ممنوعا منعا صارما إطلاق النار على الحيوانات لأن ذلك سيفضح موقعنا. هكذا رأيناها، الرسل الدقيقة الأنوف لعالم ملعون هاربة من أرمجدون غير مفهومة، تصل إلى اليابسة تنفض فروها ودون حساب أي حساب تركض على طول خنادقنا، عمياء في هروبها كاللاموس. لاأحد حاول الإمساك بالحيوانات، لاأحد أراد أن يقتل واحدا منها ليأكله، رغم جوعنا الشديد. كملائكة متنكرة من يوم القيامة غابت الكائنات الشبحية المثابرة عن الأبصار قافزة على الوحل الأسود اللامع في نور الصباح الرمادي''.
من الصفحتين 206 ـــ 207 حرب وتربنتين لستيفان هيرتمانس.
***************
الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى لم تكن لتمرّ غير ملحوظة في بلد صغير كبلجيكا عايش جبهات النار واحتفظ بآثار وجود العدو والحلفاء على أرضه. الذي لم يكن متوقعا ربّما أن تصدر في 2013 رواية بمستوى رفيع توثق الوجه البشع للحرب بحواس وعاطفة إنسان عايشها وشارك فيها وبقلم شاعرٍ وكاتبٍ عارفٍ بالفن استطاع أن يُوجِدَ مشاهد لاتترك القارئ بعيدًا بل تشدّه إليها بقوّة.
ستيفان هيرتمانس في حرب وتربنتين المتوجة عام 2014 بأكثر من جائزة أدبية يروي حكاية جده أوربان مارتيان الذي ولد في بلجيكا ماقبل التعليم الإجباري والتأمين الصحي وقوانين العمل. حيث كان الصغار يمارسون أعمالا شاقة برواتب زهيدة لمساعدة ذويهم ويتقاسمون المسؤولية كما يتشاركون الطعام والمسكن.
إبن الرسام الذي يحلم بأن يكون رساما يجد نفسه في جبهات القتال بكل مافيها من شراسة، يرى قذارة الحرب وارتماء الأعضاء البشريّة، يتحرك بين الجثث يتلقى الأوامر ويعطي الأوامر ويصاب ليعود من الموت أكثر من مرة وبعد النقاهة إلى ساحات القتال مجددا.
الحرب التي يخرجها ستيفان هيرتمانس من أوراق جدّه ليست تلك التي تسرد الأرقام وتلاحق الأحداث في عجالة بل تلك التي يجوع فيها الجنود ويذبحون فيها حصانا وجدوه للاقتيات به، تلك التي تشوى فيها الجرذان الطاغية المقتتاتة على الجثث وتلك التي يقضي فيها الجنود حاجاتهم في مكان تواجدهم الجماعي فتحيطهم الروائح الكريهة دون أن تكون أمامهم خيارات أخرى.
الجندي ينفذ الأوامر ويغامر بحياته ويتعود على رؤية أبشع صور الموت وإن تعاطف مع المتألمين أحيانا فليس بإمكانه دوما الإنقاذ أو الإسعاف أو دفع حياته ثمنا رخيصا لايفضي إلى شيء.
عدا كراهية العدو التي تحتِّمها الحرب تكشف الرواية تفصيلا مؤذيا لنفوس هؤلاء البلجيكيين الفلامان الذين عوملوا بشكل أسوء من أبناء وطنهم المجندين المتحدثين بالفرنسية وكأنهم أقل مستوى أو قيمة.
لاشيء يغيب في الرواية لتتحول أجواء الحرب والتنقل على الأراضي البلجيكية صورًا حقيقية فيها تغير الفصول و طبيعة البلاد ومادخل إليها وعليها من أسلحة مثيرة للدمار والرعب، كتفصيل أذكر استعمال غاز الخردل مثلا.
الجدّ الخارج من الحرب برتب وميداليات وبعد ذلك بتعويضات مادية هو من سيحمل آثارها على جسده و في كوابيسه، وهو الشاب التقيّ العائد لبيت والدته ليبدأ حياة انتصرت على الموت أكثر من مرة. شاب من زمن كتمان المشاعر وكبح الرغبات وشحذ العزيمة للقدرة على الاستمرار في حياة متقشفة وقاسية.
سعادته في إيجاد من ستشاركه حياته سرعان ماستنطفئ بعد أن تمرض وتموت قبل زواجها منه ويجد نفسه مطيعا كجندي يوافق على الزواج من أختها غابرييلا.
في أوروبا المطعونة في أخوّتها، الباحثة عن التعافي، القريبة من الدّين يواصل بطل الرواية مشواره ومعه حفيده الكاتب الذي يتنقل بين ماتركه جدّه على الورق من كتابات وماخلّفه من رسوم وبين الأعمال الفنية التي تأثر بها هذا الأخير أو ألهمته. فنجد في الرواية سطورا عن روزاموند شوبرت وأرليزيان جورج بيزيه وعن لوحات لأنطوني فان دايك وريمبرانت وفيلاسكيز وغيرهم.
الرواية التي نجحت بحمولتها الإنسانية في حصد أكثر من جائزة على الصعيد الهولندي والبلجيكي مؤهلة في حالة ترجمتها إلى لغات أخرى لنجاحات أكبر ولن أستغرب إن رأيتها متحولة لعمل سينمائي ناجح فهي تمتلك كل المقومات لذلك.