السّوريون يشربون كأس أَلَمِهِم ونوري الجرّاح يضمّهم والشّام تحت غشاء القصيدة-- نصيرة تختوخ

كتب الشاعر نوري الجراح قصيدة من الألم السوري المكشوف للعالم و ذاك المعتق في قلبٍ عميق. بأصابع تداعب بشرة الفاكهة الشامية أحيانًا وترتعش مغلوبةً مُرهفة أمام حمرة الدّم الدافئ على حافة الموت يصادفه القارئ يناسب حركتها وما تلمسه من حروف لتلتقي بإيقاع شفتيّ الشّام وتستوحي رسالتها. في واحد من أكثر مقاطع القصيدة توغلاًّ في الرّقة وإدراكًا لدرجة تداخل الإنسان الشفيفة مع مكان تشكّل معه وفيه يقول الشاعر:
'' لَو كَانَ لِي قَدَرٌ سِوَى قَدَرِي/لَمَا أَحْبَبْتُ لِي اسْمَاً يُسَمِّيهِ/سَواكِ،/يَا شامُ./يَا أُخْتِيَ الصَّغِيرةَ، أَنْتِ/ يَا ضَوْءَ الْفَرَاشَةِ/فِي شِتَاءِ الَأَرْضِ،/ويَا دَمَ التَّارِيخْ.''
يسلّم الشّاعر كلامًا كهذا للإنسان والوقت السوريّ ينادي العالم كي يرى مع المشاهدة ، كي يبالي مع الاستماع ليرتبط كل رقم بحياة ٍوإنسانٍ مماثل وُلِدَ في بقعة جثمت عليها السلطة كأشجار باوباب ضخمة مستعدّة للتعمير طويلا وإيثار الخراب على اقتلاعها. إنّه يصف هؤلاء السوريين الذين تتناسل صورهم هائمين على وجوههم ليُقبلوا حينا أو يقابلوا بالرّيبة والشتائم أحيانا أخرى ويُخاطبهم بتعاطف وقيراطات فخر يقدّمها هنا وهناك لامعة وثمينة ربّما لأنّ مصداقيتها حسّاسة ولاتحتمل دخول أيّ شكّ عليها أو اقترابها من صنف المجاملة أو المبالغة.
يقول: 'أيُّهَا السُّورِيِّوُنَ الَالِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ الوَسِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ الَاشِقْاءُ الهَارِبُونَ مِنَ المَوتِ، أَنْتُم لَا تَصِلُوَن بالقَواربِ، ولَكِنَّكُمْ تُولَدُونَ عَلَى الشَّواطِئِ مَعَ الزَّبَدِ./تِبْرٌ هَالِكٌ أنتم، تِبْرٌ مَصْهُورٌ وَضَوعٌ مُصَوَّحْ.../ أيُّهَا السُّورِيِّوُنَ الَاشِقْاءَ، السُّورِيِّوُنَ المُتَدَافِعُونَ مَعَ الْمَوجِ، السُّورِيِّوُنَ المَقْتُولُونَ فِي الضِّفَافِ، المَحْمُومُونَ المُتَلَهِّفُونَ عَلَى السَّواحِلِ المُعْتِمَةِ بِوُجُوهٍ صَبِيحَةٍ../تَعَالُوا لَاقَبِّلَ خُدُودَكُمُ المُتَوَرِّدَةَ مِنَ الْجَزَعْ./تَعَالُوا يَا أَحِبَّائِيَ، يَا مَنْ الْتَمَعَتْ فِي عُيُونِكمُ رِمَالُ السَّواحِلِ، وَتَمَوَّجَ الشَّرْقُ فِي نُحَاسِ وُجُوهِكُمُ سَنَابلَ ذَهَبٍ. اِنْهَضُوا كَمَا نَهَضَتْ فِي خَيَالَاتِ خُدُودِكُمُ الَاسِيلَةُ جِبَالٌ عَالِيَةٌ، إنَّكُمُ لَتَمِيسُونَ فِي خَيَالِيَ كَمَا مَاسَتْ فِي هَوَاءِ أَيَامِكُمُ أَشْجَارُ الْحُورِ وتَطَايَرَتْ أَزْهَارُ التُّفَاحِ فِي هُبُوبِ عُبُورِكُمْ...'
ويختار أن يُسطِّر مرور السوريات منفصلاً في رحلة الهجرة الأليمة بحرير شعريّ: 'كَمَا تُولَدُ عَرَائِسُ البَحْرِ تُولَدُ الحَسْنَاواتُ السُّورِيَاتُ، فِي ضَوءٍ رَاجِفٍ ويَطَأنَ بِرَاحَاتِ أَقْدَامِهِنَّ الرَّخْصَةِ المُجَرَّحَةِ حَصَى لِسْبُوسْ وَرَمْلِهَا الرَّمَادِي.' 
لغة الشّاعر جامعةٌ ومُنصفة تنتصر على التّمزق، تضع الهاربين من الموت في لوحتهم الواحدة 'سوريا' وتنسبهم إليها. ترفض بالمحبّة السوريّة سقوط المواطنة وتفكّك المواطنين كقطع فسيفساء اغتربت عن بعضها.
ما تُتجاوزة التقارير القافزة على التاريخ والمعنويات والمتفقة مع الدول الكبرى في 'الحرب على الإرهاب ' تساؤلات يستطيع الشّعر والأدب والفنّ إيقاظها بدون إلحاح كريه لتبدأ رحلة البحث عن الأجوبة. عندما يَذْكُرُ الشاعر انسكاب الدّم وورطة الإنسان في طبيعة انتمائه ويشير بنبل الشّاكر إلى تخلي الآخرين أو إسهامهم في التضحية بالسوريّ وثقافته فإنّه يسجلّ بالشّعر موقفه ودوره ويفتح الطريق لغيره كي يواصل. إن كان الطريق طويلاً وبدا وكأنّ الصوت لايصل فإنّ الاستمرار ضدّ الظلم وإقصاء الحياة فضيلة وشرف أسمى من تقديم الصّمت موسيقى للهو الوحوش. يختم الشاعر قصيدته بمخاطبة جديدة للسوريين يصفهم فيها بالْهَلَاكيين، الهَائِمين فِي كُلِّ أَرْضٍ وَيطلب منهم أن لَا يمُوتُوا وأن ينهضوا قائلا :'مُوتُوا فِي الْمَجَازِ، وَلَا تَمُوتُوا فِي الْحَقِيقَةِ.' و كذلك ' انْهَضُوا فِي كُلِّ لُغَةٍ وَكُلِّ كِتَابِ وَكُلِّ أَجَل وكلّ خيال '. وله، لكلّ السّوريات، السّوريين نهمس بصوت الإنسان:' إنكم تطرقون ضمير العالم فشكرًا. أيّها المتوسطيون، الذين تعشق شجرةُ الأمل مزاجهم، الغد لن يغلقه أعداء الإنسانية والخير'.
Nassira 29-1-16