عبور الشاعر إلى الغياب تدريجيا وحتّى النهاية--نصيرة تختوخ

 للوصول إلى " الحوض الأزرق" قطعت 247 صفحة منسجمة مع إحساس ورؤى الكاتب ــ الشاعر يوست زفاخرمان. كتابه " صمت الضوء" الذي ينفتح أمامي كروح شفافة ومناضلة صدر في اليوم الموالي لانتحاره بتاريخ 8 سبتمبر 2015 واللوحة التي أشير لها واحدة من كثيرات يتعرض لهن يوست زفاخرمان كإنسان وكاتب عمود صحفيّ منتبه قادر على ربط التفاصيل بحيوية، وذكاء وكشاعر تخطر القصائد بباله لينضاف وزن الكلمات ودرجات رقّتها وعمقها لسلطة اللوحات في رحلتها التعبيرية أو التغييبية إذا راعينا نظرته للفن كوسيط للعبور إلى الغياب. 
 لم أقل بعد أن " الحوض الأزرق" لوحة يعود تاريخها لعام 1907 للفنان البلجيكي ليون سبيليارت (1881ـ 1946) وأن يوست زفاخرمان شاهدها في متحف " موــ زي " بمدينة أوستند الساحلية وإن فعلت الآن فلنقترب من الأزرق أكثر وأُنَبِّه لسطوة الرماديّ على ما سيحدث.
كان ليون سبيليارت حسب مايروي عنه الكاتب والشاعر الهولندي شابا قلقا، ملاحقا بالخوف والكآبة، مصابا بالربو والأرق  .قاوم تآكله ونزاعه الداخليّ برسم الأشياء الموجودة حوله أو معه وإن ابتغينا الدقة سأقول التي يرى وجودها وينقله على طريقته. هذا لا يعني أن سبيليارت لم ينجز إلى لوحات طبيعة ميّتة فللرجل بورتريهات شخصية ولوحات تنوعت أشكالها وعوالمها وألوانها لكن تميّزَ الأشياء الساكنة التي رسمها الفنان وخاصة " الحوض الأزرق " يدخلنا إلى مساحة مهجوسة فيها الإنسان مُرْهَفٌ ومُسْتَقْبِلٌ والشيء حاضرٌ قويّ يعكس ملامح الواقع من حوله وينظرُ باسطا صمته في سكون.
يتحدّث زفاخرمان عن موقع الحوض في اللوحة فيقول:" يقع الحوض على غير ما اعتدناه في لوحات الطبيعية الميتة خارج المركز. مباشرة خلفه يظهر انعكاس المعدن ضبابيا ومنكمشا على الفراغ ذي اللّون الرماديّ الداكن الغالب على اللوحة " ويواصل بأن عدم توسط الحوض للوحة يجعله ككوكب يطفو في سماء رمادية. ينقل القارئ والرائي إلى تهيؤ آخر وإلى ديناميكية الشيء.
الأشياء المستقرّة التي قد يضيئها ضوء القمر ليلاً ،أو ينعكس عليها إزعاج مصباح يرافق الأرق، منها ما ظلّ نشيطا فعلاً ومتحركًا طوال اليوم؛ ينتقل من الحرارة إلى البرد ومن ملامسة اليد مثلاً لملامسة الشفة ومن دور المُعين إلى دور المنتظر، المتفرج، الإحتياطي.
فرشاة سبيليارت أخرجت الأزرق متقشّفًا خفيفًا من الرمادي الداكن، رآه الكاتب بعين المتأمّل الشاعر منطفئًا وبرّاقًا، باهتًا ومُشِعًّا، مُرهفا ومتماسكًاــ قويًّا؛ بمتناقضاته الداخلية مجتمعة لكن في توازن لايوحي أنّه يضرّ به.
رآه أم أحسّ؟ ذهب إليه أم استشعر الرّسام في ليلته الدّاكنة؟ إلتقى أم غاب في جاذبية الشيء الصامت والكوكب المستقلّ، في المساحة الجديدة التي أتاحها له الفنّ كي يُأْخَذَ دون أن يخططّ إلى أين؟
يوست زفاخرمان يسرد في كتابه مواقف لأشخاص آخرين منهم شعراء ورسامون وحتّى زوار متاحف لا يسميهم وينقل تفاعلهم مع لوحات تنتمي لاتجاهات فنية متعدّدة معها نقترب من الإجابة على الأسئلة السابقة بشكل أدق.
يكشف بعض رؤى وطباع الفنانين الذين رصد أعمالهم وهشاشتهم النفسية وحتى نهاياتهم المؤلمة كتلك الخاصة بمارك روثكو الذي انتهى منتحرًا بعد فتوحات لونية كثيرة وندرك قرب مايقوله من ذاته.
تقعره الدّاخليّ بالمساحة التي تكفي لإيواء الخوف والكآبة ليس بعيدًا عن تجويفات قابلته في أشياء تعرضها اللّوحات؛ قِشَرُ الألوان التي نادته ليمتزج فيها ويغيب كانت منذ البداية تعرف مكانها فيه وإن بدا أنّها علّقته، تمامًا كما حدث للشاعر بيير كامب وكتب إثني وأربعين عامًا بعد مشاهدته الأولى للوحة العروس اليهودية لرمبرانت فان راين:" أحبّ أحمر العروس اليهودية/ منذ أن رأيته في البداية/ ولم أفهم،/ أيّ علاقة عاطفية بدأت في ذلك اليوم ".
يقظة حواس الشاعر أكبر وأكثر سلطة عليه. إنّها لاتتركه يمرّ محايدا ولا تتركه يكتفي بانشغال سطحي، خيوطه دومًا تسحب إلى الدّاخل وكما نفهم دهشة زفاخرمان بانعكاس الضوء على الحوض الأزرق وبطبع كيس البلاستيك وسلوكه الأبيض في أعمال فنية أخرى نستطيع أن ندرك ثقل تراكم الحياة عليه وقبضة الكآبة المعذّبة له والطاقة الهائلة التي تلزم إنسانا رفيع الحسّ للنضال من أجل نفسه.
يقول زفاخرمان:"الحوض الوحيد يحمل بفضل الضوء المنتصر روحا أبدية فيه ..في طبيعة سبيليارت الميتة تتحرّر كل الأشياء " و نستشف ماوجده نسطّر ماسبق ذكره، نحترم الحوض الأزرق والأشياء التي نظر الشّاعر إلى سكينتها وحرّيتها وفراغها المطْمَئِن، نقول لها: " شكرا لأنك استقبلت وقبلت الإنسان صامتة بكامل رهفه ".
شكرًا لحوض سبيليارت الأزرق، لأحمر رمبرانت، لحسّون فابريتيوس، لحميمية ورئة ألوان روثكو، للهواء البحري الذي يهز ستائر أندرو وييث...ووداعًا يوست زفاخرمان .

Nassira 12-12-15