الشاعر رياض الصالح الحسين

مع صوت ماريا كالاس تغني '' لقد أضعت أوريديسي '' أتذكر الشاعر الذي اكتشفته هذا الأسبوع كمن يعثر على جنية هادئة تجاور زنابق الماء وتدير في هدوء كُرَاتٍ من نور إلى حين تتوجه لمهمة نبيلة جديدة.
الإنسان الأصمّ الأبكم الذي ترك دواوينه الأربعة ورحل، دافعًا بقصائده جدران عالمه الداخليّ لتنطلق الكلمات متشكلّةً ،خالصةً، من الإحساس بمعناها.
رياض الصالح الحسين الذي نجد في سيرته الذاتية الجملة الغريبة '' لم يُكْمِل تعليمه '' ونتساءل كم من التعليم يلزم ليكون المرء شاعرا؟ وأيُّ تعليم يناسب تكوين شاعر أو حتّى متبصر في الشعر؟ ليس بالتأكيد ذلك الذي خرّج لنا نقادًّا يمسكون القصيدة كجثة ويشتغلون على الديوان ككلّ ليخرجوا إلينا بعد فحصهم بمعلومات مثل يقع الديوان في كذا من صفحة وكذا من كلمة ويتكرر هذا وهذا ويستكشفون الأوزان والكلمات حتّى يبدو وكأنّهم بذلوا مجهودا يعادل مجهود منجميين في بلد متخلف لكنهم للأسف لايخرجون بالماس بل بالفحم الحجري والتعب.
أريد أن أفتح نافذة/ في كل جدار/ أريد أن أضع جدارًا/ في وجه من يغلقون النوافذ.../
أريد أن أكون زلزالاً/ لأهزّ القلوب الكسولة/ أريد أن أدس في كل قلب/ زلزالاً من الحكمة.
لاتحتاج إرادات كهذه لتحليل أبعد مما تُفْصِحُ عنه وأولّه أنّ صاحبها شاعر واللغة أداته متى احتاجها ناولته حقائبها وقالت: ''خذ الأقرب إليڭ'.
أريد أن أخطف غيمة/و أخبئها في سريري/ أريد أن يخطف اللصوص سريري/ و يخبئونه في غيمة.
القسوة التي يُحِسُّ بها المرهفون حاضرة ومعها القدرة المميزة للشاعر على رفع خصائص الكائنات بالشعر لوضعها في أكثر سياقاتها انسجاما، فكم ستقدر غيمة قطنية كثيفة على ضمّةٍ مُخَبِّئَةٍ، حاميّةٍ ورحيمة!
الشاعر الذي لم يتجاوز بعمره القصير عام 1982 كان سوريًّا مثله مثل هؤلاء السوريين الحاليين الذين نصادفهم ،نحن البعيدون عنهم جغرافيا، في الصور والتقارير فنرى الآلام ،إن لم يصرخ بها الخراب والدماء والأجساد ، موفرّة في تعابير ملامحهم الحزينة.
من بئر انكساره قبلهم حمل همّه الوطنيّ وتنبّأ:
يا سورية التعيسة/كعظمة بين أسنان كلب/يا سورية القاسية/كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون/الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك/ أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء/و دموعك بشفاهنا اليابسة/أبدًا سنشقّ أمامك الدروب/و لن نتركك تضيعين يا سورية/كأغنية في صحراء.
تفوقت سرعة الإحساس الصادق عنده على حركة الأحداث. ويمكن أن نقرأ ماكتبه في قصائد أخرى ونشعر بأنّ سوريته منذ زمنه ،ثلاثين عاما وأكثر ، توَّاقَةٌ للسّلام، ذاك الذي يغمرها عندما يغمر مواطنيها فلا يشوّش ظلّ سُلْطَةٍ مُخِيف على سلامِهم الداخلي، ذاك الذي تغيب فيه كلمات كالزنزانة والسياط والرصاص عن القلق اليوميّ لمواطن عاديّ.
ليس غريبا أن نجد عنده، هو الذي يمشي حُرًّا في عالمه الخالي من الأصوات الخارجية كوعل في الغابة، تمسكا بالحريّة يسبق تمسكه بأساسيّات حياتية أخرى فيقول مثلا: لقد تعبت من الكلام و الديون و العمل/ لكنِّي لم أتعب من الحريَّة/وها أنذا أحلم بشيء واحد أو أكثر قليلاً:/أن تصير الكلمة خبزًا و عنبًا /طائرًا و سريرًا.
ومن حقّه ذلك، من حقّه الإنسانيَ تماما.
*توفي الشاعر رياض الصالح الحسين يوم 11/21/ 1982.
 --من أوراقي المكتوبة في نوفمبر 2014