ترييستي 2001 --Trieste 2001)ترجمتي )من كتاب كرم الضيافة للكاتب الهولندي كريس كولمانس.

 



عندما أزور منطقة حرب أقرأ حتى ساعة متأخرة من اللّيل كتابًا عن حربٍ أخرى، في البنسيون أو الغرفة التي أُستضاف فيها أو قاعة الدّرس المهجورة التي يسمح لي بالمبيت فيها. يأخذني ذلك بعيدا عن الخراب الذي رأيته خلال النهار. لكنه يساعدني أيضا على النظر بشكل أفضل من مسافةٍ حدث فيها الشيء نفسه. في المرة الأولى كانت ناغورنو كاراباخ عام 1994. كنت آوي في شقة عائلة نارحة. كانت مسكنا واسعا. غرفة النوم فيها مغلقة، لأنها كانت تحتوي على أشياء خاصة لم يستطع أصحاب البيت أخذها معهم. كنت أنام على أريكة في غرفة الجلوس، الملاءات فيها منهكة من الغسيل وناعمة، الأثاث يبدو أنه كان مختارا لحياة أسرية بلا إزعاج ، في زمن آخر، في الثّمانينات.
كنت أقرأ 'كل شيء هادئ على الجبهة الغربية ' لإريك ماريا ريمارك. الحكاية الفظيعة، المكتوبة وكأن المرء يعايشها، لجندي ألماني فقد نفسه وكل ماهو إنساني لديه في الخنادق في الحرب العالمية الأولى. ' يداي تزدادان برودة ولحمي يقشعر والليل لايزال دافئا.الضباب فقط بارد، هذا الضباب الغامض الذي يزحف على الموتى ويمتص منهم حياة أخيرة متسلّلة. في الصباح سيصيرون شاحبين وخُضْرًا ودمهم متجمدا وأسود .' حرمني هذا المقطع من النوم. في الخارج ، في الظلام الدّامس دوَّى صوت إطلاق النار لجنودٍ في خنادق على الجبهة.

في 1938 حرم النازيون ريمارك من جنسيته. هاجر إلى نيويورك. كان كتابه حينها قد صار من كلاسيكيا، بيعت منه الملايين من النسخ. عاش ريمارك في الفنادق والنوادي الليلية وكان عشيق مارلين ديتريش. بعد الحرب استقر في لاغو ماجوري بسويسرا. كانت الفيلا الخاصة به مليئة بأعمال سيزان وبيكاسو ومونيه و حتى موته في عام 1970 بقي يكتب عن الحرب.
تبرعت أرملته بوليت غودار بجزء صغير من ثروته لجامعة نيويورك. بها أنشأ المؤرخ البريطاني طوني جدت Tony Judt، عندما كان في السابعة والأربعين، مؤسسة ريمارك التي أراد بها تشجيع الحوار العابر للأطلسي حول الهجرة والسلام والاستقلال الفكريّ. كان طوني يستدعي مرتين كلّ عام لمنتدى ريمارك مجموعة متغيرة من الأمريكيين والأوروبيين العاملين في الميدان الفني والسياسي والعلمي .
حضرت المنتدى سبع مرات. كانت مواضيع الحوارات طموحة والموقع مدهش. المتفق عليه أن لايُحضِّر المدعوون أي شيء من أجل اللقاء، أن لا يأتوا بعروض شفاهية محضرة مسبقا وألايكتبوا تقارير ولا يأخذوا صورا جماعية. الأمر كان مريحا وممتعا بشكل خاص للعلماء الذين يسمون أنفسهم أناس المطارات لأنهم يتنقلون بشكل مستمر من أجل المحاضرات والندوات.
لم يكن لأي أحد أي سلطة أو أسبقية عدا طوني الذي يسير الحوار لمدة ثلاثة أيّام. طوني الذي يعتني بجسده الرياضي (الملاكم) يبحث دائما بعينيه البنيتين من خلف نظاراته عن منفذ يسدّه. معرفته واسعة كالمحيط. بقيادة أي رئيس وزراء خان حزب العمال الديموقراطية الاجتماعية ،الأرقام الخفية خلف السياسة العنصرية في تكساس، كم مدة رحلة القطار من غروتشخالب إلى مورين، لماذا أماركورد أفضل فيلم لفيليني وليس لا دولشي فيتاـ كل هذا يعرفه طوني جدت. لكنه أثناء المنتدى كان يطرح خصوصا الأسئلة.
من يرفع إصبعًا يريد أن يقول شيئا ومن يرفع إصبعين يريد أن يقول الآن شيئا. كان طوني يشعرنا بأن تبادلنا للأفكار مهم جدًّا لدرجة أنّي لم أكن أرى شخصا يرفع إصبعا واحدا فقط. كانت الحجج تطير سريعا وبروعة على الطاولة. هناك أسئلة كانت تبقى بدون إجابة وفي أحيان أكثر يحدث أن يأتي جواب لأسئلة لم تطرح بعد.
*آخر منتدى كان عام 2007، تجول فيها الكاتب و المدعوون الآخرون في أكسفورد وتساءلوا فيه 'عمّا بعد .' دون أن يجدوا جوابا. طوني جدت توفي في 6 أغسطس 2010 ولم يتجدد المنتدى من بعده.