ليكن إِسْمُنَا 'لاأحد ' ونحن نقرأ قصائد 'لاحرب في طروادة '


أذكر أنّني كنت منتشية عندما تسلّمت ديوان 'لاحرب في طروادة '؛ بفضول الكائنات التي تحبُّ السَّفر والفوز بالدّهشة حاولت تصفحه سريعا لكّني سرعان ماأحسست بوقوعي في الخطأ و بِهيبة القصائد التي تفرض طريقة أخرى في التّعامل معها وتتحدّى القارئ. مررت بالصّفحات وصرت أَعْلَقُ في الأزمنة والصُّوَر وألمس فداحة اليأس إذ لايُخَلِّص المرءَ ولايقضي عليه. باختصار فإنّ القصائد التي كانت أمامي تشكّلت في عوالمها بإرادة معقّدة لشخوصها وكلماتها وأزمنتها التي لم تخلُ من الإنسان والحرب.
عدت للديوان لاحقًا وعدت معه إلى كلامٍ لحنّة أرندت عن التاريخ إذ تقول:' التاريخ كفئة للوجود الإنساني أقدم بالتأكيد من الكلمة المكتوبة، أقدم من هيرودوتس، أقدم حتّى من هوميروس. ليس بالحديث تاريخيًّا بل شعريًّا، بدايته توجد بالأحرى لحظة يستمع عوليس لنفسه وهو يروي حكاية أفعاله ومعاناته في حضرة ملك كورفو، حكاية حياته، وقد صارت شيئًا خارجًا عنه، '' شيئًا '' كان على الجميع أن يروه ويسمعوه. '
رأيتُ بعيدًا عن سذاجتي الأولى كيف أنّ نوري الجرّاح يختار أن يكون هوميروسيًّا وأوديسوسيًّا معًا. يروي شعريًّا حكاية معاناة الخارج من مدينةٍ مأهولة مُبْهِرَةٍ ولاينجح للعودة إليها كما كانت؛ فكأنّما قامت قيامتها وهو واحدٌ وكثيرون مشتركون في مصائر شديدة الإيلام. بينما يغرق من يغرق و يقتل من يقتل ويتشرّد في الأرض هاربٌ من الموت يكون نصيب من يشهد أن يعيش عذابًا هائلاً ليس فقط لأنّه يرى الخراب والموت الذي لحق بمدينته/ بلده بل لأنّه حاضرٌ حضور الميِّت الهائم الموجود دون أن يستطيع التّغيّير. فما يحدث يُبْكِي الكهف والحاصلُ أنّ الجحيم صار يلتهم البساتين والأسواق والأجساد والرّائي العاجز يتمنّى على الأقلّ أن يستطيع أن يروي؛ ربّما يرتبّ أو يفهم أو يتصالح مع عجزه وقد أشار للشَّرِّ الواقع. قد تكون إحدى التساؤلات المدهشة في الديوان تلك التي جاءت في قصيدة 'الصّراط المشتعل ':' لم تركتني هنا يالقيانوس؟! ' إذ تجعلنا نتساءل هل استحضار لوقيانوس لحاجة للمزيد من الخيال والفكر للاستيعاب؟ أم هي حاجةٌ لقوَّةٍ واستثنائيّة من الماضي؟ أيّ مسؤولية تقع على الإنسان المتفرجّ والذي يلتزم الحياد أو من يرى أن لكلّ شعبٍ قضيّته التي لا تخص غيره؛ أين حدود الغير من حدودنا ومالمشترك؟ هل الإرث الحضاريّ يُقْبَرُ ولايبقى له صوت. الأرض التي تخبّئ الأجساد؛ تنطق بأزهار الأسف: شقائق النّعمان.
صورٌ كثيرة في الديوان، بعضها يصل لمرتبة الكابوسيّة، تصير مؤثّرة أكثر عندما ينتقل الشّاعر إلى درجة عاليّة من الرِّقّة فيتمكّن من تحقيق هيبة الشّعر لأنّه قادرٌ على ذلك الانتقال المذهل بين مستويات الإحساس، إذ يملك صلابة مواجهة المشاهد العنيفة ورهف إنسانيته الذي يجعله يقول :'نور البهجة كتّان ماسلف ' و' شبابيك نهضت وهبت على الجبال ملابس الأطفال ضحكاتٍ '.
نوري الجرّاح دمشقيّ الأمس واليوم، يصيبه القدر السوريّ الحاليّ وتقليبه للتّاريخ والأسطورة في الشّعر كأنّه الممكن الوحيد ليتكسر الحاضر ويلتئم وتجد الكلمات قوّة كي تقول وتستوعب الحاصل. عوضَ أن تتدّفق جملا نهريّة هادئة تنتقل من مستوى لآخر وتضطرب وتتصادم في الرّحلة لتفعل شيئًا مشابها بشعور القارئ الذي لا يحصنّه التّقوقع.
عندما ينفي الشّاعر حرب طروادة يتراءى هوميروس كمدوّنٍ للقدر يتدخلّ الشّاعر الحديث في تدوينه . كلُّ 'لا 'يضعها إلاّ ويمسح بها مصيرًا وحدثًا ويعيد بها حياة الطرواديين إلى زمنٍ هادئ بلا بطولات تاريخية أوتضحيات أو معارك؛ لوقتٍ فيه الحلم متاح بدون يوفوريا تكون معها الحياة على الحافة. 'لا أقواس نصر ولاأطواق غار في الرؤوس/.../لاقتلى ولا قبور/...لامراكب على السواحل ولا جنود في المراكب ' حتّى هيلين ليست فاتنة تصحو من أجلها حرب بل جميلة تتشمس وتحفز حلم يقظة يناسبه أن يرافقه عزف على الأوتار. لمَ كلّ هؤلاء الصّرعى المجهولين و الأشهر:مينلاوس، أخيل، أغماممنون، هكتور إذا كان العزف متاحًا والخيال يمكن أن يسرح بعد أن يفتح له وشاح قرمزيّ وخدٌّ أسيل المجال. 'لِمَ لاتزال الحرب تُكْتَبُ؟ لمَ يقتل الأنبل والأشجع والأحبّ أيضا؟! الأطفال يريدون آباءهم والأمهات؛ العيدُ لايناسبه الحرمان. ' كلامٌ لا يقوله الشّاعر نوري الجرّاح لكّن قد تؤدّي إليه لاءات القصيدة حيث هوميروس يترك قيثارته للرّيح في استسلام مسالم.
إستحضار الشخصيات الأسطورية في سياقات مختلفة تبعد الشّاعر المتمرِّد عن المُبَاشرة ولاتُغَيِّبُ الصِّدق الضروريّ كي يكون الشِّعر جميلاً وحقيقيًّا. الشّاعر يشهد على ألم شعبه وبلده وينجي شعره من أيِّ خطاب سياسيّ. الهالكون والمغامرون الذين يستعيدون أصواتهم أو صورهم في القصائد يشيرون إلى الذي وقع ولايزال، للحنين الذي يقرض القلب أحيانا والوقت الذي لايستعاد، لمحاولاتهم المنهكة؛ يختزلون السّرد ويوفّرون الشّرح؛ الذي حدث/كان والذي يحصل يلتقيان ببراعة الشِّعر ليزول تعقيد الزمان والمكان وينصهر وقتٌ في وقتٍ.
بعد أن قرأت كلّ القصائد بطريقة تليق، تخيّلت بحرنا المتوسطّ، خطر ببالي تلقائيا بوسيدون. كان الشاعر والكاتب الهولنديّ كييس نوتبوم كتب له مجموعة رسائل، في عددٍ منها يكرّر أنّه يعرف أو يتوقّع أنّ هذا الأخير لن يردّ. في إحدى تلك الرسائل يقول :'Scrivo in vento أكتبُ في الرّيح . لا نستطيع أن نكون أقرب للخلود من ذلك. هذا طعمٌ لاتعرفونه أنتم. ألم الوقت أعظم ثروتنا. الصدأ، التعفن، الفطر الذي يتحوّل لموسيقى شيء مختلف عن رحيقكم الأبديّ.'
هوميروس في 'لاحرب في طروادة ' أسلم قيثارته للرّيح؛ نوري الجرّاح ربّما فيها مع المنشد أيضا كتب.
Nassira 16-7-20.