البحر- مارسيل بروست -- سبتمبر 1892 ( ترجمتي)

البحر سيسحر دوما من يسبق عندهم النفور من الحياة والانجذاب للغموض أولى الأحزان، كأنّ لديهم إحساسا مسبقا بعدم قدرة الواقع على إرضائهم. هؤلاء المحتاجون للراحة قبل الإحساس بأيّ تعب، يواسيهم البحر و ينعشهم بصورة مبهمة. البحر لايحمل مثل الأرض آثار أعمال الناس و الحياة البشرية. لاشيء يبقى فيه، لا شيء يمرّ إلاّ ليهرب والأمواج التي تنحسر خلف المراكب الذاهبة سرعان ماتتلاشى! من هنا ذلك النقاء العظيم الذي يملكه البحر ولاتملك الأشياء على اليابسة. تلك المياه العذراء أرق من الأرض المتصلبة التي يلزمها معول للبداية. خطوة طفل على الماء تحز أخدودا بصوت صافٍ وتدرجات الماء الموحدة تتكسر للحظة؛ ثم يختفي كلّ أثر ويعود البحر هادئا كما في أيام بداية العالم الأولى. من يمل من طرق الأرض أو يتخيّل حتى قبل تجريبها، كم هي قاسية وفظّة سيكون مفتونا بالطرق الشاحبة للبحر، الأخطر والأنعم؛ غير الموثوق فيها والخالية. كل شيء في البحر أكثر غموضا، حتّى تلك الظلال الكبيرة التي تطفو أحيانا على حقوله العارية، بدون بيوت ولا أوراق تشكّل الظّلال، وتمدّد الغيوم، تلك القرى السماوية و الفروع المبهمة. له جاذبية الأشياء التي لاتصمت ليلاً، والتي تأذن لحياتنا القلقة بالنوم وتَعِدُها بأن كلّ شيءٍ لن ينعدم، مثل مصباح الأطفال الصغار الذي يجعلهم يشعرون بوحدةٍ أقلّ إذا كان مضيئًا. ليس منفصلاً عن السّماء كما الأرض و هو منسجم دوما مع ألوانه ويتمرّد بتدرجاته الأرّق. يشع تحت الشّمس و يبدو وكأنها تموت معه كلّ يومٍ .بعد أن تختفي وكأنه يندم على ذلك فيحتفظ بقليل من ذكراها المضيئة بينما يعمّ الأرض ظلام موحد. إنه وقت تلك الانعكاسات الكئيبة والناعمة لدرجة تجعل القلب يذوب والمرء يشاهدها. عندما يصل الليل تقريبا وتظلم السماء على الأرض التي اسودت. يبقى البحر يلمع بضعف، ولانعرف بأيّ سرٍّ و بأيّ تذكارٍ لامع من النهار هارب تحت تيارته يفعل ذلك.إنه ينعش خيالنا لأنه لايجعلنا نفكر في حياة الناس لكنه يمتع روحنا لإنها مثله طموحٌ لايحدّ لكنها عاجزة، حماسٌ متكسرّ بالسقوط المكترر، شكوى أبدية وناعمة. يجعلنا ننتشي كالموسيقى، التي لاتحمل مثل الكلام أثر الأشياء، لاتقول لنا شيئا عن الناس لكنها تقلّد حركة الروح. قلبنا المندفع مع موجاته وهو يسقط معها، ينسى زلاّته ويتواسى بتناغم حميم بين تعاسته وتعاسة البحر الذي يمزج قَدَرَهُ بقَدَرِ الأشياء.