'عند بوابة الخلود ' لمحة سينمائية عن رحلة فنّان رسم لأجيال قادمة

عند بوابة الخلود فيلم مدته ساعة وواحد وخمسون دقيقة من إخراج جوليان شنابل، يؤدّي فيه الممثِّل ويليام دافو الدّور الرّئيسي حيث تتبعه الكاميرا متجوِّلاًّ ومثابرًا كالرّسام الهولنديّ فينسنت فان خوخ. إلى جانبه يظهر ممثلون بحضورٍ أقلّ في أدوارٍ ثانوية، منهم روبرت فريند في دور ثيو فان خوخ شقيق الفنان الذي سانده مدى الحياة وأوسكار إيزاك في دور پول غوغان الذي شارك الفنان السّكن في منطقة آرل الفرنسية وكان بينهما مراسلات وتبادل للوحات. الفيلم لايشير لذلك جليًّا وإن كان يظهر تقدير پول غوغان لزميله وللمودّة المتبادلة بينهما. إذ كان الاثنان يقدّران فنّ بعضهما البعض رغم سوء التفاهم الذي كان يحدث بينهما. الأمر الذي وصل ببعض الباحثين في السنوات الأخيرة لحدّ التّشكيك والبحث عن الأدلّة في واقعة قطع أذن فان خوخ واتهام غوغان بفعل ذلك.
يتعرض الفيلم لمرحلة معينة من حياة الفنّان ذات النّهاية الأليمة؛ إذا اعتبرنا أنّ النّهاية كانت الموت،وهي فترة إقامته في الجنوب الفرنسي وانتقاله منها إلى أوفير غير بعيد عن باريس.وقد جاء العمل مركّزًا على رؤية الفنّان للرّسم والطّبيعة ونشوته في ملاقاتها وعلى مثابرته. إذ حملت عدة مشاهد تنقّله في الحقول وتوقفه أمام مناظر طبيعيّة وهو يرسم. في حواراته مع غوغان يشرح نظرته وأفكاره عن الرّسم ويقول مامفاده أنه يريد أن يرسم لوحات مضيئة. وكما يعلم الجميع فإنّ الجنوب الفرنسيّ على عكس موطن الفنان الأصليّ أكثر اعتدالاً مناخيا وأكثر ضوءًا. لأنّ الفيلم لايتعرض للمراحل الأولى لرحلته الفنية فإنّ التبدّل في لوحاته لايظهر جليًّا، كما يغيب تأثّره برسوم ولوحات أخرى. قد يجدها بعض المشاهدين حركة الكاميرا السّريعة أثناء التّجوال أو أثناء محاولة المخرج إبراز الرّؤية من خلال عيني فان خوخ مشوِّشة، لكّنها ليست مضايقة لذلك الحدّ الذي يسبّب نفورًا تامًّا. الفيلم في معظمه ليس سريع الإيقاع وقد زادت الموسيقى التصويرية المعتمدة على حضورٍ قويّ للبيانو من مساحات الهدوء؛ لكّنها ساهمت في الوقت ذاته مع عوامل أخرى في نزع الواقعيّة الشّديدة من الفيلم. فقد كانت رغم جمالها أحد العوامل التي تفصل المُشَاهِد عن اندماج كليّ وتذكّره بأنّه أمام عملٍ فنيٍّ مصطنع.
تمَّ تناول حادثة قطع أذن الفنّان والإشارة إلى ماتمَّ قطعه منها في الفيلم، إذ أنجز الطبيب رسمًا سريعًا يشير فيه إلى ماتمّ بتره، دون الدّخول في مشاهد دموية أو إدخال سيرة بول غوغان في شبهات، باعتبار فينسنت فان خوخ المسؤول عمّا جرى له؛ كما تمت الإشارة لاعتداء أطفال القرية على الفنّان ورغبة السّكان في مغادرته. لكّن اختلاق أجواء بعض المشاهد وتفاصيلها جاء محمّلاً مجدَّدًا بإضافاتٍ تُشْعِرُ بصناعتها لاحدوثها الفعليّ.
ويليام دافو السِّتينيّ جسد دور فينسنت فان خوخ الذي كان في الثّلاثينات من عمره في تلك الفترة لكّن ذلك لم يعب أداءه كثيرا إذ جاء مقنعًا إلى جانب ملامحه.
الذين يعرفون سيرة الفنان جيّدًا قد يشعرون بأنّ الفيلم لمحة تستحق الامتنان عن حياة ملأى بالمحاولة وبذل المجهود. إنّه يظهر أزمات فان خوخ المرضية ودخوله للمصحات العقلية دونما انتقاص لقيمته. كما يُشَارُ لذلك بجهل أحيانا في بعض المقالات. فبقدر ماعاني وحزن ظلّ قادرًا على الابتسامة وحمل الرّيشة من جديد.
يبقى أنّ بعض الحقائق كان بإمكانها أن تجعل الفيلم أشدّ وأقوى. هناك لوحات محبوبة رسمها الفنّان في الفترة التي رصدها الفيلم لاتظهر ومراسلات ثريّة تم تجاوزها، فالفنان كان مطلّعا على الأدب والفنّ معًا وراسل أحبّته بسخاء. لقد كان العمل يتحمّل ثراءً أكبر كما أنّ هناك خطأً ينمّ عن عدم دقّة. فلوحة الجذور التي يبدو فيسنت فان خوخ بصدد رسمها، عندما يتطفّل عليه الأطفال مع مدرّستهم المتهكمة، من المرّجح أنّها آخر مارسم الفنّان في أوفير سور واز قبيل مماته عام 1890. وهي لوحة لم تكتمل قال عنها أحد أقارب زوجة أخيه:' في صباح مماته رسم منظرًا لطبقة سفلى لأشجار مليئًا بالشمس والحياة .'
Nassira 10-2-19--