....جدّتي، جدّتي...


يصيبني ذلك الحنين في المساء وأنا عائدة وفي الصّباح الباكر، أحيانا الباكر جدًّا، كأنّ الجدّة التي كانت تنام غير بعيد عنّي لتوّها استيقظت وأنّي سأقوم لأتبعها، وأعرف أنّ الجوّ بارد وأنّ الصّقيع زجاجيٌّ جميل على النباتات، وبالأمازيغية اسمه يكاد يتكسّر وينزلق 'أزريش'. أمّي تتمنّى أن نبقى دافئين في الفراش، كما كانت تتمنّى في ظهيرة الصّيف أن نحتمي من الشّمس والحرّ في القيلولة، لكّن القرية مفتوحة وكلّ الحقول مباحة لنركض من الزيتون إلى اللّيمون والبرتقال ومن مساحات أشجار المشمش حتى سطر أشجار السّرو. أشجار الرّمان كان منظرها فوضويا، كأنّها غير مهمّة حتى تنطق بأزهار مدهشة يبقى منها تاج الرّمانة أو فمها، أيّ عجب! حالةٌ خاصّة هي الرّمانة وبذلك الثوب الفاصل في الدّاخل ثمرة أنثى.
رائحة الحطب يحترق دليل على أنّ النّار في مكان ما، أنّ إحدى العمّات قد استيقظت وأنّها تعدّ الفطور، أنّ الحليب دافئ والخبز دافئ وأنّ الجدّة قد تكون بمنتهى السّرية أوصت لتكون في الفطور أشياء نحبّها أو تجعلنا نحبّها وهي تقشّرها لنا أو تقطعها أجزاءً كأنّها تُطْعِمُنَا لنكون ونَصِيرَ كبارًا، نصير فخرًا.
لاأعرف عن جدّتي إلاّ أنّها كانت تحبّني ليس أقلّ من الأحفاد الأولاد الذين سبقوني، ليس مثل باقي الإناث. كنت وليدةً مرهفة، وصوتي وأنا رضيعة، حسب روايتها، كان يشبه الثُّغاء يستجدي العاطفة. ظلت تحتفظ بألبستي الصغيرة لوقت طويل تشمّها وتبكي بعد أن أخذني والديّ وغادرا إلى فرنسا. وبعد أن عدت في أعمارٍ أخرى لم أكن أتبعها كحَمَلٍ بل أرقّ وأرهف، كنت أتبع جدّتي كرائحة الزّهرة؛ ألحقها وأتعلّق بها. كلّ حكاياتها، كلّ خرافاتها بالنسبة لي كانت عجائب مثيرة ورائعة، مالذي لم تكن تعرفه جدّتي؟ الفرنسية مثلاً وأسماء المشاهير، لم يكن ذلك شيئًا مقابل أسرار الكائنات التي تعرف وماتستطيع يداها أن تفعلاه. إن جدّتي كانت تشفي، تضع النبتة التي تعرفها مع شقيقتها النبتة الأخرى أو حبّة من عطاء شجرة ما وتضعها على ساقي التي تؤلمني فأشفى. بعينيها الصغيرتين والزُّرقة فيهما، بأنفها الجميل الذي تنزلق عليه قطرات العرق كحبيبات الندى في الصّيف، تجاعيدها وفمها الذي كان تخرج منه أدعية كالهدايا مليئةٌ بالحبّ والكثير منها لي، كانت أرقى من قروية وأذكى من صديقاتها اللّواتي يتحدثن ويتداخل كلامهن كدجاجات. و كنت أناسبها مبالية وغير مزعجة كأنّها أدركت أنّني وريثة لعاطفة كبيرة أحملها وأمشي مهما بدا أنّها تُتْعِبُ أو تقهر تجعلني أَكْبَرْ، أكبرْ، كَمْ جدتي أكبرْ! على جيدها عقد ذو خرزٍ أسود و حول معصمها إسورة فضيّة تبدو صلبة ولايهدّدها شيء، غير مزيّنة بنقش أو حجر أو أيّ شيء عدا لونها الطبيعيّ وبساطتها. جدّتي بضفيرتين يعلوهما منديل وقُدْرَةٍ على التّعلم بالتّأمّل والتّجربة، كانت لاتلومني على عدم اهتمامي بأشغال البيت، ربّما أنَّبت أمّي أحيانا ، لم أعد أذكر لكنّي أذكر أنّ القصّة الوحيدة التي بدت لي بلا معنى يناسبني، هي تلك التي حكتها لي عن فتاة كتبت بعد زواجها رسالة لأبيها تقول فيها أنّ أثمن هديّة أخذتها معها لبيتها الجديد هي تلك التي أعطتها أمّها إيّاها وكان الأب الذي يدلّلها قد منحها الجواهر والحليّ والأمّ علّمتها سرًّا شؤون البيت،تكتّمت على انطباعي لم أخبرها أنّ بِنْتًا مثلي ستَمُوتُ بشقاء لوحدث لها ماحدث للفتاة في الحكاية ولن تكتب بالتأكيد رسالة امتنان.رجل يأخذ بنتًا مثلي لبيتٍ بعيدٍ لتعدّ له الطّعام، لابُدَّ أن يكون سجَّانًا ووحشًا ويضرب بيده القاسية على المائدة؛ في حضرته سأَصِيرُ خَرْسَاءَ ولن يتحسّن في مهاراتي أيّ شيء. كيفما كان وحشا سيشعر باليأس الواثق الذي يجعله يقول أنّني لابدّ سقطت من شجرة. وأمشي في الطريق الطويل أبحث عن شجرة، أشجار السّرو، أشجار الحور، شجيرات شوكيّة عليها علّيق ويبقى الطّريق طويلا، المشوار بعيدًا...جدّتي، جدّتي.
Nassira 6-11-17-