القصيدة تستمّر نحو غدها( الخروج من شرق المتوسطّ للشاعر نوري الجرّاح)ــ نصيرة تختوخ.

القصيدة خروج الشّاعر من الصّمت الذي كان فيه منغلقا على أناه، آمنًا في الوحدة، إلى التّحركّ صوتًا بالكلمات التي يتصرّف بها، و حديثًا لانشعر أنّه يُنْشِئُ ويتعمّد الترتيب بل يَصْدُرُ عَنْ صَوْتِهِ ومن كلماته.
الصّمت الذي يقول عنه الشّاعر بييرـ ألبير جوردان:' الصّمت غرفتنا منذ الأزل/ الوَحْدَاتُ لاتُبْلَغْ /إلى بتمزقّات متعدّدة/ وإنّه بلا شكٍّ المعنى النّهائيّ/ لِنَفَاذِ الأرض البطيء إلى أجسادنا.' عندما يغادره الشّاعر فإنّه ولاشكّ يغامر بِطَاقَةٍ كَبِيرَةٍ وبِقَصْدٍ ودون قَصْدٍ يعرض شفافيته، التي قد تفاجئه هو أيضًا، بحكم أنّ لاأحد يعي تمامًا كُلَّ مايتوارى بداخله. الذي يجعل مغامرته تستحقّ التّقدير والامتنان هو الالتقاء بالآخرين الذّين يَسْمَحُ لهم بالرؤية معه وإن كان ذا موهبة، أصفها بالمصيرية، فإنّه لايكرّر بل يُضِيفُ ويُطَوِّرُ وفي الشِّعْرِ يناسب جدًّا أن أقول يتحدّى.
من سيصرخ باليأس ذاهبًا إلى نهر النّور إن لم يكن الشّاعر؟ سيقول أحدٌ ما الموسيقيّ والفنان التشكيلي وأعيد أقصد يصرخ بكلماته التي تَحْفُرُ وسافرت وتترك أثرًا وإن كانت غريبة عن بعضها تصير بحياةٍ جديدة تقبل أدوار جديدة.
في القصيدة التي يصبح الشّاعر كَائِنَهَا نراه مُرْهَفًا ونلمس إرادته القويّة، نقابله عائدًا إلى الطِّفل الذي لايغادره ونكون معه، مادام شفّافًا لِمَ لاَ. وقد يبدو الكلام مبهما لكّني أتناول قصيدة الشاعر نوري الجرّاح الحديثة :' الخروج من شرق المتوسط ' نموذجا ورحلة شعرية لأواصل.
يبدأها مستغربا، متسائلاً:'َلِأَنَّنِي قُدْتُ السَّفِينَةَ مَرَّةً/أَلِأَنَّنِي قُدْتُ السَّفِينَةَ مَرَّةً،/يَوْمَ فَاضَ العَمَاءُ وَلَمْ تَعُدْ يَابِسَةٌ هُنَاكَ/أَلِأَنَّنِي اهْتَدَيْتُ بِالأُفُقِ/لِأُنْقِذَكَ مِنَ الهَلاَكِ/أَلِأَنَّنِي عَمَّرْتُ المُدُنَ، وَرَفَعْتُ الأَسْوَارَ وَكَتَبْتُ الرَّسَائِلَ وَأَخْرَجْتُ الرُّسُلَ/تُكَافِئُنِي/بِأَنْ تُقْفَلَ عَلَيَّ اليَابِسَةُ.. كأنّه السّوريّ ذو التاريخ العريق في ظل الواقع الظّالم يلوم لكّنه لن يدخل في المحاججة والاتهام، لن ينزلق في بناءٍ يبدو أنّه يروم به الإقناع أو التّعاطف، لن يخرج عن صوت الشّاعر الذي لديه دوما انحياز للعدالة، لن يستسلم لعاطفة محدّدة تعبّر عن نفسها بإسهاب لأنّه في لحظة شِدَّةٍ وما معه كثير. مثل أخطبوط بثمانية أذرع و قلوب عديدة، يُخْرِجُ بأذرعه من الماضي و المستقبل لايبدو مستحيلا. ولو بدا متحدثا بصيغة الأنا فإنّه في أناه لايتخلّص من الغير فله قَلْبٌ له وقلبٌ للضحيّة وقلبٌ للمدينة ...
ذكرت بيير ألبير جوردان في البداية أعود إليه مجدّدا في قوله:' لاأحد ينظر إلينا ، ولاننظر إلى أحد. لاَمُبَالاَةٌ وحشيّةٌ. إنّهُ اللّيل.' الشّاعر نوري الجرّاح يقول في قصيدته:' فأنا حكاية كل يوم./وأنا الزّورق المكسور/للموجة العمياء./ كَانَ أَنْ كُنْتُ وَلَمْ أَكُنِ.' العبارة :' كان أن كنت ولم أكنِ ' شأنها شأن الكلمات: عماء/ عمياء تتكّرر عدّة مرّات في القصيدة.
هُنَاك تركيز عند الشّاعر على الكينونة حتّى مع إصرار الظروف على الإقصاء أو مع سيادة اللامبالاة، اللّيل أو العماء وبينما يحمل صوت الضحية المهدّدة، المُطَارَدَةِ التي تسقط في أكثر من مشهد يفعل مجدّدًا بالكلمات، يتصرّف بها وباللّغة كمادّته لتصنع حقيقتها التي تستدرج القارئ فلايكون مستهجنا أو غير مصدّقٍ بل داخل واقعٍ هو فيه أَيْضًا غَيْرُ حَذِرٍ وَمُعَرَّضُ للتفاعل بإدراكه وإحاسيسه. في أحد المقاطع الأكثر إضاءة في القصيدة يكتب:' لكل باب في صخرة سِرٌّ/ وسرُّكِ نهر يتدفقّ بين الصّخور/ يتدفقّ/ ويملأ القاموس بالكلمات./سرّك نسمة الهواء/ وخروج البحر من المرايا/ وانفراط السّماء في الزّبد/ وهروب العقل من الصّور،/ الأفق هشيمٌ/ والموت يلطخ الصّحائف.../ أبحر لزرقة الأزل هذا أم هاوية في كسور الألواح؟! فيثّبِتُ تلك القوّة التي يقدر الشّاعر الحديث أن يمنحها لمقطع أو مقاطع في قصيدته فتبدو كموجة أعلى وتَطوي غيرها. بما تحمله كلمة ' السّر ' من حميميّة، ' زرقة الأزل ' من لا انتهاء بما بينهما فإنّ نوري الجرّاح يواصل 'سفر ' بودلير لايحبس قصيدته في مزاج واحد. فتحمل عنه مما تقدر عليه من خياله وحلمه وآلامه وهواجسه متداخلة وفي جمال، غموضٍ أحيانا تنبعث.
في المقطع الأخير لقصيدته سفر التي بدأها متفائلا ومتحدثا عن العالم بعيني طفل يقول بودلير:'أيها الموت، أيها القبطان القديم، حان الوقت! لنرفع المرساة!/هذه البلاد تضجرنا، أيها الموت لنُبْحِر!/إذا كانت السماء والبحر أسودين مثل الحبر،/ قلوبنا، التي تعرف، مليئة بالأشعة./صب لنا سمّك ليريحنا!إنّنا نريد الغوص، لهذه الدرجة تحرق هذه النار دماغنا،/ في عمق الهاوية، الجحيم أم السماء، ما الفرق؟/في عمق المجهول من أجل إيجاد الجديد!
يقال أنّ شارل بودلير راسل صديقه شارل أسولينو بشأن قصيدته تلك وكتب:' لقد كتبت قصيدة طويلة مهداة لماكسيم دو كامب تجعل الطبيعة ترتعش وخاصّة محبّي التّقّدم.' أظنّ أنّه لو قرأ ' الخروج من شرق المتوسطّ' لنوري الجرّاح سيشعر بسعادة لأنّ سَفَرَهُ لازال مستمرًّا ويتقدّم.
كأنّها نهاية الكلام توشك، مع أنّ لانهاية لحَدِيثٍ عن قصيدة غنيّة كالمتوسطّ، في زرقتها طائرٌ ورأت الأزل. كمن تستأذن فقط : 'يَا أُمَّهُ يادمشق! بِاسْمِ وَرْدَتِكَ' أرمي كحصاة في البياض نقطة وفي النّفس أمنية بالسّلام.
Nassira 3-11-17.