هل تحكم دمشق الحجاز؟ أم يحكم الحجاز دمشق ؟ ''

 طوماس إدوارد لاورنس، نيد أو لاورنس العرب كما يصطلح على تسميته، صديق ودود للعرب أم جاسوس وعميل محنك أدّى دوره المشبوه وانصرف. يمكن أن نجد كتابات متعدّدة عن الأوروبي المصور مرارا بالزيّ العربي وحتى أفلاما تشهد باهتمام السينما بحياته المثيرة للفضول. لكن الطريق الأقرب ربما لصورة أصفى عن شخصيته هو الدخول إلى تجربته في بلاد العرب من خلال كلماته الموثِّقة في كتابه '' أعمدة الحكمة السبعة .''
لانتهيّأ طويلا والكتاب بين أيدينا لنرى ملامح تلك الثورة العربية الزاحفة من مكة إلى دمشق ونلمس دوافعها التي لم يكن لاورنس أو البريطانيون بصفة عامة موجديها وإن أسهموا في تشجيعها ودعمها لزيادة السقم العثماني.
يصف لاورنس أحد تلك المجالس العربية الكثيرة التي حضرها قائلا: ''لقد أدهشني رجال العشائر ذوو الملابس المهلهلة باطلاعهم الواسع وإدراكهم العميق للمفاهيم القومية التي يتعذر حتى على الطبقات المثقفة هضمها، وكي أسبر غور هؤلاء الحاضرين طرحت عليهم السؤال :
ــ '' ترى بعد انتصار الثورة هل تحكم دمشق الحجاز؟ أم يحكم الحجاز دمشق ؟ ''
والجواب كان أن هذه المسألة لا تعنيهم كثيرا '' فالمهم أن يتخلص العرب من المتطفلين الذين يتحكمون بهم . '' وينتقل لاورنس بعد هذا لتوضيح موقف العراقيين والسوريين المشاركين في الثورة المنطلقة قائلا بأن مشاركتهم في ثورة الحجاز تقدم لهم كل المبررات للحقوق العامة للعرب في تجسيد الوجود القومي العربي والأمر سيان عندهم إن كانت الدولة المنتظرة دولة وحدوية أو اتحادا كونفدراليا فهم راغبون في إدخال دمشق وبغداد في الأسرة العربية.
الدافع للثورة من هذا المنطلق واضح لكن الكاتب لايتوانى عن التأكيد عن عدم تحلي الثورة بطابع ديني خاصة وأن العرب ينتفضون ضد سلطة العثمانيين الذين يتشاركون معهم في نفس الديانة.
في أكثر من مقطع في الكتاب نجد أهمية تلك اللغة الجامعة في المنطقة والداخلة في عادات وممارسات الفرد التي يستمد منها حماسته ونشوته كالاستمتاع بالشعر مثلا.
المتوقع من المستشرق هو الإدلاء بتلك النظرة الجديدة للاختلاف والانتباه لطباع أو أعراف غريبة عنه وذلك مالا يغيب عند لاورنس العرب . نجد سطورا في أجزاء الكتاب تشهد بشمائل عربية عايشها البريطاني: الكرم ، عدم تخلي العربي عن رفيقه في الطريق، الصبر، سعة الصدر الشجاعة ، الوفاء... ومن تجارب عسيرة تقفز صور الإنسان الذي لم تنتزع منه البيئة الصعبة الرحمة وتقدير الكائنات فتشطب من المخيلة أي تهيؤ قد يحط من إنسانية المحارب العربي من أجل غد يُنْصِفُ رغبته في أن يكون متحررا من سيطرة الدخلاء. تلك الخصال مغذاة بالحلم العربي نلمسها في حوار بسيط كالذي ينقله لاورنس متحدثا عن نوقهم التي أصابها الجرب فيقول :'' في المرحلة التالية عدت لحديثنا عن الجرب. فقال زكي أننا سنؤسس في سورية بعد استيلائنا على دمشق مصلحة وطنية للطب البيطري.'' ويضيف على لسان رفيقه زكي دائما:'' ويتوجب أن تؤسس مراكز للأبحاث العلمية والجرثومية لمعالجة كل أنواع الأمراض الحيوانية ''.
الرحلات الكثيرة والعمليات التخريبية وإلحاق الهزائم بالعدو التركي قربوا لاورنس من زملائه العرب وعمقوا أزمته وإحساسه بكماشة وظيفتيه بين الجنرال اللنبي والأمير فيصل الذي اتخذه مستشارا ووثق برأيه.
إنّه لايبدو مرتاح الضمير و هو يعترف بهوان تعبه الجسدي أمام الضغط النفسي الذي يسببه لو الدَّوْرَان مع إدراكه للطبيعة الإنتهازية لدولته التي قد تغيب عن العربي الواثق والمُتعاون لكن لا تغيب عنه.
يبوح :'' هذه المتاعب ماكانت لتعني شيئا نظرا لعدم اكتراثي بما هو جسدي وإنّما هناك الخداع المرهق الذي اضطررت أن أحمل نفسي وزره وهو ادعاء قيادة ثورة وطنية لعنصر آخر... مع يقيني التام بأن '' الوعود '' التي أطلقناها للعرب لن تكون لها أية قيمة عملية فيما بعد إلا بما سيظهر العرب أنفسهم من قوة. ''
لاورنس سقط فعليا بين الإخلاص والوفاء ومأزق الدورين أوصله لإعترافه:'' لم يكن في إمكاني أن أشرح للجنرال اللنبي كل دقائق الوضع كما لم يكن في استطاعتي أن أكشف لفيصل كل مخططات الإنجليز ''.
إعترافاته هذه قد تنزع عنه الدناءة في عيون البعض أو البطولة في عيون آخرين لكنها تؤكد حقائق أخرى كثيرة من بينها تأثير شخصية الأمير فيصل (آنذاك)فيه وإعجابه به وبقدراته القيادية العالية وكذلك لمسه لحقيقة تلك الثورة العربية التي كانت لها دوافع تجعلها قائمة بذاتها ومتحركة نحو أهدافها وغاياتها، مشحونة بعزائم وتضحيات ومرفوقة بالشجاعة و الفخر.
تؤكد خاتمة الكتاب الذي يصل بالقارئ إلى الدخول إلى دمشق ميل لاورنس الفعلي لانتصار العربي وتحرره إذ يُظهر بِشْرَهُ بتجاهل أوامره وأمله في أن يكون العرب أسياد قرارهم وتصرفهم فيقول :'' كما أعيد وصل الخطوط مع فلسطين مع بيروت التي استولت عليها القوات العربية أثناء الليل. وقد كنت منذ أيام '' الوجه '' حذرت العرب من ارتكاب هذا الخطأ ناصحا إياهم بأن يتركوا بيروت للفرنسيين تملّقا لهم. والاستعاضة عنها بطرابلس لأن طرابلس كمرفأ أفضل من بيروت بكثير ويمكن لأنكلترا أن تقر لهم ذلك في ميثاق سلام. لذلك غضبت لتصرفهم الخاطئ ولكنني في الوقت نفسه كنت مغتبطا لأنهم أصبحوا كبارا لايستعمون إلى نصائحي ويعملون بآرائي ''.
طعنة سايكس ــ بيكو وما انكشف من مخططات أخرى أكدّ شكوك لاورنس في وعود بلاده ونواياها وإن كان هو قد حاول تطهير ضميره أو استعمال البوح الكتابي وسيلة لحفظ التوازن أو التصالح مع الذات فإن الحلم العربي الكبير وجد نفسه سريعا أضعف من أن ينجو من كل الشرور والمكائد المحدقة به.
يبقى للقارئ تأمل صفحات التاريخ ومنها شهادات لفاعلين فيه مهما كان دورهم ضئيلا لتوسيع رؤيته ومعرفة ملابسات زمن قبل زمنه والخروج بأحكامه.
Nassira  9-1-2015-R'dam