الجاني النرويجي وجناة باريس

الجاني النرويجي وجناة باريس
http://www.alarab.co.uk/?id=42684
حرية التعبير والديمقراطية في أوروبا ليستا وليدتي مرحلة التفكير والكفاح التي أوصلت إليهما، وحسب، وإنما هما ثمرة عملية متواصلة اليوم لتحقيق التوازن.
العرب نصيرة تختوخ [نُشر في 14/01/2015، العدد: 9797، ص(15)]
تحقيق توازن يدعم الإحساس بالديمقراطية والحرية مع الأمن
يمكن النظر إلى حادثة شارلي إيبدو من عدة زوايا، فهي بالتأكيد تستدعي تسليط الضوء على جوانب أكثر من مجرد مقابلة “حرية التعبير” بالعنف والدم.
بداية لنتذكر هجمات 22 يوليو 2011 في النرويج وما قام به أندرس بهرنغ بريفيك، الثلاثيني الذي يعرف نفسه بأنه مسيحي محافظ والذي قتل ما لا يقل عن 77 شخصا، وحتى بعد صدور الحكم عليه بالسجن لمدة 21 عاما فإنه لم يقدم اعتذاره لعائلات الضحايا بل بالعكس عبر عن اعتذاره لـ “المناضلين الوطنيين” لأنه لم يسقط عددا أكبر من الضحايا. فحسب تفكيره، وميله المتطرف، فإن التنوع الثقافي ووجود المسلمين في أوروبا، وفي بلده تحديدا، خطر على ثقافته. ومن يشاركون في سياسة اجتماعية تشجع على الاندماج والتكامل الثقافي مذنبون. خوف وإدانة عبّر عنهما بجرائمه.
يمكن التساؤل هنا عن مدى اختلاف الجاني النرويجي عن الجناة في باريس ذوي الأصول العربية والانتماء الإسلامي، كما يمكن إيجاد نقاط تشابه في ردة الفعل والتصرف، وحتى في تشكل الشخصية، على اعتبار أن الأخوين سعيد وشريف كواشي كانا يتيمين وتربيا في ملجأ في مدينة رين، وأن أندرس بهرنغ بريفيك من والدين منفصلين، عاش مع والدته. وحسب اعترافاته فإن والده رفض مقابلته، بعد محاولة، بحجة أنه غير جاهز لذلك.
ماهي درجة التوازن النفسي التي يتمتع بها شخص يستطيب العنف في أقاصي حدوده؟
سؤال يستحق الطرح تسبقه صورة العنف كما تقدم في التكنولوجيا الحديثة، لتتحول مشاهد القتل إلى وسيلة للمتعة والترفيه والنشوة، يكفي الاطلاع على بعض الألعاب الإلكترونية ذائعة الصيت، ولنتأمل ارتباط الدموية بالبطولة والانتصار.
الوصول إلى الهدف عن طريق إقصاء الآخر ليس جديدا على التاريخ ولا على الإنسان، لكن ما يراه الكثيرون جديدا هو هذا الطابع الترويعي لما يحدث
الوصول إلى الهدف عن طريق إقصاء الآخر ليس جديدا على التاريخ ولا على الإنسان، لكن ما يراه الكثيرون جديدا هو هذا الطابع الترويعي لما يحدث، وصعوبة التحكم فيه. فالبلدان الغربية عموما ليست على أراضيها حروب، ومع ذلك تجعلها أحداث كالتي جرت في باريس غير آمنة ومهددة بالفواجع المباغتة.
الطبقة المثقفة الأكثر وعيا لا تكف عن فتح أبواب النقاش والخوض بجدية وعمق في هذا الواقع الذي يمكن اعتباره جديدا، نسبيا. هل لحرية التعبير حدود وما السبيل للنجاة من التناقض مع مواد دستورية أوروبية موجودة وتجرِّم العنصرية مثلا، إنها لم تأت من فراغ بل وضعت لسيادة الأمان والعدالة. أيّ تحسينات يجب أن تخضع لها سياسة الاندماج، وأيّ رقابة وتصحيح يجب أن تخضع لهما المؤسسات الدينية.
في هولندا هناك قضية قائمة ضد البرلماني وزعيم حزب “الـ pvv أو (حزب الحرية)” خيرت فيلدرس بتهمة نشره للكراهية والعنصرية، وذلك عقب سؤاله في أحد لقاءاته مع جمهوره، “هل تريدون في هذه المدينة وفي هولندا مغاربة أكثر أو أقل؟ ” وكان جواب مناصريه من الحاضرين عموما: “أقل”. فردّ: “سنرتب لكم ذلك”.
يظهر جليا في القضية/الحدث الامتحان الذي تشهده حرية التعبير في أوروبا والحاجة الملحة إلى تحقيق توازن يدعم الإحساس بالديمقراطية والحرية مع الأمن والانسجام والسلام.
الطريق الذي سلكه من رفعوا شكاواهم ضد فيلدرس في هولندا طريق مختلف عن الذي سلكه منفذو عملية شارلي إيبدو
الطريق الذي سلكه من رفعوا شكاواهم ضد فيلدرس في هولندا طريق مختلف عن الذي سلكه منفذو عملية شارلي إيبدو، وهو الخيار الآخر إلى جانب خيارات مختلفة يستطيع معها الفرد الحفاظ على قناعاته والدفاع عنها دون الوصول إلى تقديم الموت على الاستمرار والحياة. مما لاشكّ فيه أنّ الحوار والكتابات الواعية الكثيرة التي تدعو إلى انتصار الحرية والمحبة على سيادة الخوف والكراهية أكثر نضجا من التوقف عند مجرد التعاطف عن طريق تكرار نشر الرسوم الكرتونية أو زيادة جرعات الخوف عند مواطنين يحاولون ممارسة حياتهم بإنسانيتهم الكاملة أو تركيز العدسة على حادثة أليمة وتغييب إيجابية الآلاف من المهاجرين العرب والمسلمين المسهمين بشكل يومي في الحياة الاجتماعية السليمة والنمو الاقتصادي لفرنسا وأوروبا بشكل عام.
حرية التعبير والديمقراطية في أوروبا ليستا وليدتي مرحلة التفكير والكفاح التي أوصلت إليهما، وحسب، وإنما هما ثمرة عملية متواصلة اليوم لتحقيق التوازن اللائق بحماية الإنسان وحقوقه والكلمة معا.