أوكتاف ميربو جريدة صدى باريس 31 مارس 1891--عن فينسنت فان خوخ--(ترجمتي)

الرجل الذي يبذرـ فان خوخ


كان فان خوخ من أصل هولنديّ، من وطن رمبرانت الذي يبدو أنّه أَحبّه وأُعجب به كثيرًا. بمزاج بتلك الأصالة الغزيرة وبذلك الاندفاع وبتلك الحساسيّة الجماليّة العالية التي لاتقبل كدليل إلاّ الانطباعات الشخصيّة، إذا أمكن أن نمنح سلالة فنية، فيمكن ربّما أن نقول أنّ رمبرانت، الذي كان من أكثر من يشعر فان خوخ بالانبعاث فيهم، كان جدّه الأعلى في الميل. لانجد في رسوم فان خوخ الكثيرة أيّ تشابه مع رسوم رمبرانت لكننا نجد حبًّا عظيما متضايقا من تكرار الأشكال و غِنًى خَطِّيًا مشابها في الابتكار. ليس لفان خوخ  دائما نفس تصحيح ولا تقشف المعلّم الهولنديّ؛ لكّنه يصل غالبا إلى بلاغته و قدرته الخارقة على إعادة الحياة.
عن طريقة إحساس فان خوخ، لدينا دليل محدّد جدًّا ودقيق جدًّا: إنّها النسخ التي أنجزها عن لوحات رمبرانت ودولاكروا وميليه. إنّها مثيرة للإعجاب. لكننا إذا تحدثنا بنزاهة فإنّ تلك الاستعادات الفخمة والغنية ليست نسخا. بل بالأحرى تأويلات، ينجح الرسام من خلالها بإعادة خلق أعمال الآخرين، وجعلها خاصة به مع حفظ روحها الأصلية وطابعها الخاص.
الرجل الذي يبذر- ميليه
في 'الرّجل الذي يبذر ' لميليه، الذي جعله فان خوخ جميلاً بطريقة خارقة، تشتد الحركة و تتسع الرؤية ، الخطّ يتضخم لدرجة أن يصل لمعنى الرّمز. مايخصّ ميليه موجود في النسخة؛ لكن فينسنت فان خوخ يُدْخِلُ شيئًا خاصًّا به، ويجعل اللوحة تكتسب عظمة جديدة. واضح جدًّا أنّه كان يستحضِرُ أمام الطبيعة العادات الفكرية و المَلَكات المتفوقة الخلاّقة نفسها التي يستحضرها أمام لوحات الفنانين الكبار. لم يكن يستطيع أن ينسى شخصيته، ولا احتواءها أمام أيّ عرض وأيّ حلم خارجيّ. كان يفيض عن نفسه بإلهامات شغوفة عن كلّ مايرى وكلّ مايلمس وكلّ مايحسّ به. كما أنّه لم يُؤْخَذْ بالطبيعة بل أخذها إليه.، لقد أجبرها على المرونة، على اتخاذ أشكال فكره، على اللحاق به في اندفاعاته وحتّى على الخضوع لتغييراته الشّكلية المميّزة. كانت لفان خوخ درجة نادرة من ذلك الذي يميز إنسانا عن آخر: الأسلوب. بين حشد من اللوحات المختلطة بعضها ببعض، فإنّ العين في رمشة واحدة بالتّأكيد ستتعرف على تلك الخاصة بفان خوخ، كما تتعرف على تلك الخاصة بكورو ومانيه ودوغا و مونيه ومونتيتشيلي لأنهم يمتلكون عبقرية خاصة لايمكنها أن تكون لآخر هي الأسلوب، الذي معناه التّصريح بالشخصية. أيّ شيء تحت ريشة هذا الخلاّق الغريب والقدير يتحرّك بحياة غريبةٍ، مستقلّةٍ عن تلك الخاصّة بالأشياء التي يرسمها، حياةٌ موجودة بداخله هُوَ وتُطَابِقُهُ هو.
إنّه يَسْتَهْلِكُ نفسه بالكامل لحساب الأشجار والسّماوات والأزهار والحقول التي ينفخها بالنّسغ المُدهش لكيانه. تلك الأشكال تتعدّد، تتضافر، تتلّوى، وحتّى الجنونِ الجدير بالإعجاب بتلك السماوات حيث الأجسام السماوية الثّملة تدور وتترّنح، وحيث النجوم تمتد كأذيال لمذنبات مهلهلة؛ حتّى ظهور تلك الأزهار المدهشة التي تنتصب وترفع أعرافها كأنّها طيور مجنونة، يحتفظ فان خوخ بميزاته الفنيّة الجديرة بالإعجاب وبنُبْلٍ مُؤَثِّرٍ وعظمة تراجيديّة تُخيف. أيّ سكينة تلك في الّسهول المشمسة، في البساتين المزهرة. حيث تثلج أشجار الدّراق و التفاح بالفرح ، حيث تصعد سعادة الحياة من الأرض في رعشات خفيفة وتنتشر في السماوات المسالمة ذات الشحوب الحنون والنّسائم المنعشة، في الأوقات الهادئة! آه! كم فهم الروح المتألّقة الاستثنائية للأزهار!
كم كانت يده التي تنزّه المشاعل الهائلة في السّماوات السّوداء رقيقة لتربط بين الحُزَمَ الفائحة والهشّة! وأيّ ملامسة ناعمة تلك التي لم يجدها لكي يعبّر عن طراوتها التي تُعْجِزُ التّعبيروجمالاتها التي لاتنتهي؟ وكم فهم أيضا ما المُحْزِنُ ومالمجهول والإلهيّ في عين هؤلاء المجانين المساكين والإخوة المرضى!