أمور موندي/حُبُّ العالم --نصيرة تختوخ

في البداية أود أن أشير أنّ الهدف من هذا المقال ليس فقط تسليط الضوء على كتاب المفكر البلجيكي بيتر فينمانس،الصادر عام 2016، الذي يحمل العنوان اللاتيني ' أمور موندي ' أيّ حُبُّ العالم، ، بقدر ما هو رغبة كأنها واجب لتذكير القارئ  بأنّه من العالم وبأنّ وعيه بذلك يجنبه الوقوع في تجارب مسبوقة بنفس درجات الخطأ والملابسات. إنّه يؤهله للاستفادة والفهم والارتقاء والتصحيح ويجعل العلاقة التي تربطه بالعالم أسمى وأجدى وأكثر رشدا عندما تكون علاقة حبّ. مقابل الحبّ هنا لا توجد الكراهية تحديدًا بل اللامبالاة واللاّوعي أو نقص الإدراك الذي يضيق مجال الرؤية ويرسم حدودًا لعالم الفرد ومن حوله جدارٌ يتحرك العالم الواسع خارجه وكأنّه بعيد ومنقطع والواقع يحتّم الاتصال رغم ظاهرية الإنفصال.
يبدأ الكاتب أولى فصول كتابه بالحبّ في المسيحية الذي يأتي موجها مباشرة إلى العالم لكنه ينساق من حب الإله ' أمور ديي ' إلى ' أمور موندي '. ويجنح في اقترابه من تدرج الحبين إلى واجب ' حب ذي القربى ' المنصوص عليه في المسيحية واليهودية التي سبقتها مع الاختلاف في كون مفهوم القريب مع المسيح صار أوسع، إذ من الممكن أن يكون غريبا ومن ديانة أخرى لكن ظرف تواجده يجعله قريبا غير مختارٍ لكنه قريبٌ ومحتم. بعد المرور على التجربة الفرانسيسكانية (فرانسيسكوس الأسيسي) التي تقترب من البيئة والطبيعة يصل الكاتب إلى تسييس مبادئ الدين ثم مرحلة الانتقال من مفهوم الحب إلى مفهوم السعادة الشخصية.
قبل تشريح تورط السعي نحو السعادة في مدارات الأنانية والضيق يشير الكاتب باهتمام لالتقاء الفيلسوفين الليبرالي لوك فيري والاشتراكي ألان باديو في ' الحبّ ' حيث يرى فيري بأنه من غير الممكن اختصار كل شيء فينا، وفي صنعنا للسعادة الشخصية؛ ففي الحياة أشياء نتمناها دون أن يكون لدينا تأثير مباشر عليها. ونحن بذلك محتاجون جميعا للحبّ، يأتينا من الخارج لأنّ الحبّ الذي نكنّه لأنفسنا وحده لا يكفي. أمّا باديو فإنه يرى أن الحب يقود إلى تدخل راديكالي لكسر الوضع الراهن ' ستاتوس كو ' لصالح لحظة الحقيقة عند الثائر والمتمرد. أتوقف هنا للتّأكيد على أنّ ماشاب الحبّ من ابتذال وتوريط مؤشّر على قدرة الحبّ ومركزيته في حياة الإنسان. روحيته وقدرته على توليد ممارساتٍ وأحاسيس أخرى تمنحانه الحضور في علاقات الإنسان العمودية (بينه وبين الأعلى) والأفقية (مع الآخرين).العودة إلى الحب بالتحليل والتفكير ومراجعة التعامل معه مستحقة وضرورية.
حب الذات من روسو إلى تطرفه في النيوليبرالية
في أحد استجواباتها لعام 1987 نطقت مارغريت تاتشر بالآتي:'' لايوجد شيء إسمه ' مجتمع ' هناك فقط أفراد وأُسر ' هذه الجملة التي لايمكن درء شراستها وجد لها بيتر فانمانس قريبةً عند الروائية آين راند التي أصدرت روايتين حظيتا باهتمام كبير هما :''أصل النبع '' (صدرت عام 1943) و''الأطلس مُقَاطِعًا '' (1957).
راند كانت فيهما سباقة للحماس و الدفاع عن النيوليبرالية التي يؤرَّخُ لبدايتها مع تاتشر وريغان. دافعت فيهما وفي كتابات أخرى لها عن الفرد وأهدافه غير المبالية بالآخر وبالطبيعة.
الإنسان هو السيد الذي من حقه تطويع الطبيعة والظروف حسب مايناسبه ويناسب مشاريعه. الأفراد الذين اختارت الروائية مقارنتهم بأطلس في الميثولوجيا، لقدرتهم على التحمل والتحدي، يتطرفون في حبهم للذات ويتخلّون عن المُشْتَرَك بما فيه العالم من أجل أهدافهم الفردية.
ينتقد الكاتب فكرة جعل مقابلٍ للحبّ كأيّ نشاط في النظام الرأسمالي الذي يتحرك بمبدأ الربح.
فيرى ديناميكيته مختلفة عن منطق المال. أضيف بهذا الشأن من خارج 'أمور موندي' بأنّ ابحاثا عميقة وشديدة الأهمية كانت إحدى أهدافها المعلنة دراسة حالة المجتمع الهولندي الحالية للنظر في طريقة تطوره ومستقبليته جاءت بنتائج تثبت صحة رؤية الكاتب. فالتقارير والخلاصات الواردة التي تعاون على تحقيقها أزيد من عشرة باحثين وأكاديميين مرموقين بشأنها في كتاب ' الأعلى والأراضي المنخفضة '، جاءت في أكثر من فصلٍ مؤكدة على حقيقة ترسبّ قيمٍ، يمكن بأريحية، وصفها بإنسانية نبيلة في المجتمع و أفراده. يختار معها الفرد أن يتجاوز حبّ ذاته وحتى الأهداف المادية من أجل الآخر الذي لا يمنحه بالضرورة مُقابلاً أو يكون معه في نفس مستوى العطاء.
ترد في '' الأعلى والأراضي المنخفضة ', بعد التقارير الموثقة بالنسب والجداول و التحقيق في تفاصيل كثيرة، خلاصةٌ لإريك بورخمان و غابرييل فان دين برينك و بول ديكر وفيليم فيتفيين مفادها أنّ ماتتناقله وسائل الإعلام من خطابات وما يتم استنتاجه منها من أفكار حول المجتمع مغلوط في معظم الأحيان. فمن خلال الأبحاث المستمرة لسنوات ثبتُ بأن الناس في المجتمع الهولندي يولون أهمية للحياة الجماعية وترابطها. إنهم يشعرون أنهم مرتبطون بمحيطهم وببعضهم ويقلقون بشأن جودة المساحة المشتركة. كما أنهم يتمنون أن يلعبوا دورا إيجابيا في تحسين الحياة المشتركة ويفعلون ذلك باختيار الكثير منهم لممارسات النشاطات التطوعية التي يساعدون بها أناسا غيرهم بدون مقابل أو يسعون من خلالها للحرص على الطبيعة والبيئة. مايمكن تلخيصه في أنّ الأفراد لا يريدون فقط أن يعيشوا أحرارا وبصحة جيدة وسعداء بل أيضا أن يكون مجتمعهم بمن فيه ممن يرتبطون بهم مثلهم أحرارا وبصحة جيدة وسعداء.
الأذى المختفي في أفكار راند أو الممارسات و السعي النيوليبرالي، الذي يقدمه بتفصيل أكبر كتاب ناؤمي كلاين 'عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث '، يتمثل في اللاتوازن بين الفئة القليلة، ممثلة في أفراد طموحين وماديين، وسعيها نحو سعادتها على حساب عناصر أخرى أهمّ لخيرٍ أكثر عموما وعدلٍ أكبر.
تبدو العاطفية بما فيها من انسجام مع الطبيعة الإنسانية عاملا مساعدا للتقارب وتفهم الناس لبعضهم ومما لاشك فيه فإنها مُخَفِّفة للإحساس بالاغتراب أو الانفراد بالألم لكن مادرجة إسهامها في حبّ العالم وهل يتحقق بها وحدها؟
 ما الممكن؟
في الجزء الثالث من الكتاب المعنون ب: ما الممكن؟ يدخل بيتر فينمانس منطقة غير غريبة عن الالتهاب في الحالة العربية الراهنة.
يخلص الكاتب إلى أنّ حبّ العالم يستلزم التّعجّب والتساؤل المؤدي إلى التفكير والتعبير عن الاستياء الفعليّ ويدافع عن رأي حنه أرندت في تحريك التفكير النقدي نحو الخروج بحكم يدافع عنه صاحبه. لأنّ حبّ العالم يفشل باللاّمبالاة والاستسلام للأحداث بدون محاولات تغيير الشّر أو السيء فيها. يمكن أن نستحضر في هذا الإطار الانكسار الذي حدث في الوسط الثقافي العربيّ بسبب غياب المواقف أحيانا و تضاربها أو ارتباكها بشأن ثورات ماسمي بالربيع العربي والتحولات التي تلتها. توقّف بسيط يُلّح, أشير به إلى مقال الشاعر السوري منذر المصري الذي حمل عنوان ' ليتها لم تكن '، حيث أبدى الشاعر ألمه وأسفه عما حدث لبلده ومواطنيه، أقتطف منه بوحه :'يوم استشهد باسل شحادة..قلت لياسين: "سورية كلها لا تساوي باسل شحادة".. ويوم استشهد مجد علي.. صاحت سوزان:"أخي ليس شهيداً..لم يكن يريد الموت، كان يحب..ووسام سارة.. وسوسن حقي.. وميري زريقة.. وناجي الجرف.. والأب باولو.. والأب فرنسيس.. '' وأضعه مقابل مقطع لألبير كامو في ' الإنسان الثائر:' بمجرد أن يضرب. يقسم الثائر العالم إلى شطرين. كان يقف بتطابقِ الإنسان مع الإنسان ويضحي بالتطابق مُكَرِّسًا في الدم الاختلاف...يمكن القول أن الكثيرين معه لكن عندما ينقص شخص واحد من عالم الإخاء الذي لايعوض فإنّه يخلو. 'إن لم نكن، لستني ' هكذا يمكن التعبير عن الحزن اللامتناهي لكالياييف وصمت سان جوست.'
كامو أثار في كتابه بالطبع أفكارًا تستحق ربما اليوم أكثر من أوقات مضت العودة إليها والأهمّ منها بالنسبة للسياق وقوفه في صف الحرية والعدالة مع حذره وامتعاضه من الانسياق إلى الدمار والقتل تقديرا منه للعالم.
موقف كموقف الشاعر منذر المصري يبدو قريبًا بل وحتّى ثمرة طبيعية من قلب وفِكْرِ مثقف مغروس في بلد تلطخت ثورة شعبه بالدم.
الوجود في العالم بحبّ ارتقائيٌّ. فيه تمردّ على ضياع قيمة الإنسان كما فيه المحاولات لتقديم الأفضل من أبسط الممارسات إلى أعقدها.إنّه يتضمن أيضا شعورا بالمسؤولية كما رآه الفيلسوف هانس يوناس إذ أرشد التصرف بوضعه في اتجاه استمرار الحياة الإنسانية على الأرض من أجل الأجيال القادمة. و لعل أجمل مايحمله كتاب بيتر فينمانس إشادته بفكرة تجدد البداية بالولادة التي أعطتها حنّة أرندت بُعْدًا آخر غير البعد الديني الذي جاء به أوغسطينوس. يستشهد الكاتب بمقولة الهنغاري جيورجي كونراد ' حقيقة الحبّ طفل '. فيها يربط الطفل الحبّ بالعالم، كما تنتبه له المفكرة حنة أرندت التي يبدو أن علينا استحضارها مرارا إذ كتبت لصديقها ياسبرس تقول:'' في التربية نحدد إن كنا نحبّ العالم بما يكفي لنقدّم المسؤولية عنه وننقذه من الأفول،الذي يصير حتميا بدون التجديد و بدون قدوم الجُدُدِ والصغار. في التربية نقرر إن كنا نحب أبناءنا بما يكفي كي لانمنعهم عن عالمنا ونتركهم لأنفسهم ولانمنعهم من أخذ فرصتهم في الشروع في محاولاتهم الخاصة بل بالعكس نعدهم للمهمَّة: ' تجديد عالم مُشترك '.
يختم المفكر البلجيكي بتناول للشعار ' إكتشف نفسك، إبدأ بالعالم ' الذي انتبه له في إحدى الحملات في جامعة محلية وأفضّل عدم الخوض في أيّ شرحٍ أوإضافة عدا التساؤل: متى سينعم الإنسان بأمنه في العالم لأنّه أحبّه فحرص على الفهم والقيم ومنهما على حياة حبّه وتجديدها لأنّ العالم باقٍ بعده والقصد أن المواصلين بعده بذات الحبّ سيصابون؟
Nassira 11-12-16