حلويات للسيدة أسد ــ خلف خطوط النظام السوري ــ نصيرة تختوخ


شهران بِطُولِهِمَا في سوريا خلف خطوط النظام السوريّ قضاهما الصحافي روبرت دولمرس يتجوّل ويحاورُ و يسجّل ملاحظاته لينقلها ككاتب محترف بما أوتي من حياد للقارئ فينقله إلى البانوراما السوريّة في أوقات الحرب وتناسل الجرائم. 'حلويات للسيدة أسد ' هو عنوان الكتاب الصادر أواخر أبريل 2016 والذي يرمز به روبرت دولمرس لعلبة الحلويات التي ابتاعها من إحدى محلات الشكولاتة الفاخرة في بلجيكا وأرسلها للسيدة أسماء الأسد وكان ينوي إجراء حوار معها ومع زوجها ما لم يتم، و إن كانت أُتيحت له فرصة متأخرة لذلك رآها لا تلزمه .
دمشق التي تستمر فيها الحياة وتقاتل على تخومها قوات الأسد فيها النوادي اللّيلية المفتوحة وفئة من الحريّات مكفولة، تتعايش فيها الأعراق ويمارس كل شعائره حسب ما يناسبه لكن الخطّ الأحمر يبقى السياسة والتدخل فيها. صور الرئيس التي تصل حدّ النظرة الصارمة والوقفة الحازمة بالنظرات السوداء والحاضرة بقوّة ذكرت الكاتب كما صرح في بعض أحاديثه بالاتحاد السوفياتي سابقا. الموجوعون بسبب الحرب كما يبدون في الصور والنشرات الإخبارية يكادون يغيبون في كتاب دولمرس. هناك آلام وشهادات وانتقادات تختلف تدرجاتها ومواقفهما وتحليلان شاملان وشديدا التميز يقدمهما المحلل الهولندي إيرفين فان فيين المختص في الصراعات والعدالة والأمن والمرتبط بالمؤسسة الهولندية للعلاقات الدولية كلينغندال.
ريم حداد رئيسة الصحافة الخارجية بدمشق التي رتبت للكاتب لقاءاته لم تتوان في حثه على أن ينقل للقارئ تقريراته بحرفية وأمانة لكن أمورًا لافتة للانتباه تكشف الحذر الذي يلتزم به بعض المجيبين.فالانفتاح الذي يقابل به الصحافي الهولندي في ظل غياب الصحافة العالمية لايمنع وجود تعليمات عند الأشخاص الذين يقابلهم رسميا فيجيبون بما يناسبهم ويعتمون على مايشاؤون. كأن يشهد أحدهم بوجود محاكمات عادلة للمقبوض عليهم ويتم نفي الاعتداء ات في المستشفيات أو الاختطافات وماشابهها.
البراميل المتفجرة
ينكر القائد العسكري صلاح الدين وجود البراميل المتفجرة فيجيب:'' البراميل المتفجرة اختراع من الإعلام الغربي، لدينا كما ترى المدفعية والمتمردون يستعملون صواريخ الهاون''. وبطريقة أخرى ينكر الجنرال غسان عفيف وجود البراميل المتفجرة عندما يسأله دولمرس عنها يقول:'' لا توجد إنها مجرد قذائف لايزيد وزنها عن نصف طن ويطلقون عليها إعلاميا ذلك الاسم. الصحافي قناص والنسر لا يبحث عن فأر بل عن طريدة كبيرة. يجب أن تركز على الأمور الكبيرة: الربيع العربي صار ربيعا إسرائيليا. القنابل الأكثر فتكا كانت أمريكية وسقطت على هيروشيما وناكازاكي..أتمنى لو كانت عندي أسلحة أكثر دقة لكنها غالية . معي الحق إذن في إيجاد البدائل إن لم أكن غير قادر على شراء الذخيرة ''.
السؤال الذي يواجه به الكاتب مجددا وبإلحاح لوالي حلب مروان عُلبي يحيله مجددا لجواب ملتف آخر:'' الإعلام الغربي يبالغ بشدة..لكلّ بلد الحق أن يستعمل كلّ قوته ووسائله عندما يكون في حرب مع مخربين. لكننا كدولة لانهاجم مواطنينا ''.
في حمص يقابل الكاتب جنرالا يجرؤ على اعترافات من نوع آخر لكنه لا يذكر إسمه . هذا الأخير يقدم شهادة قاسية عن المقاتلين القاصرين الذين يقعون في أيدي الجيش النظامي السوري. يعترف بأنهم يقتلون وإن كانت أعمارهم قد لا تتجاوز الثالثة عشر. يمسك الجنرال بهاتفه ليستعرض على الصحافي صورهم وفيديوهاتهم وقد تمت تصفيتهم يقول عنهم أنهم من تنظيم الدولة وأنهم يعاملون كالمقاتلين الراشدين. يتعجب روبرت دولمرس من صراحة وجرأة الجنرال لكن ذلك لا يغير في الواقع المرير شيئا.
يقابل الكاتب اليسوعيين الذين يواصلون نشاط الأب فرانس الذي لقي حتفه في حمص وزنوبيا الأسد الذي ذبح والدها في تدمر التي أحب وينقل شهاداتهم المؤلمة لكنه ينتبه لاستمرار الحياة في أماكن تنجو من الموت والقصف.
المحلّل إيرفين فان فيين
يأتي شرح المحلّل إيرفين فان فيين ليفسر استمرار الخدمات والأجور والمعاشات في مقطع يجمع فيه بين تركيبة الولاء واستمراره:''الطبقة الموظفة الممتدة عند النظام البيروقراطي لاتزال تحصل على أجورها. واللافت للانتباه أن هذا لايزال صحيحا بالنسبة للموظفين في المناطق الخارجة عن سلطة النظام أيضا.الأمر صحيح بالنسبة لرواتب المتقاعدين أيضا. أن تبقى الدولة متحملة لبعض مسؤولياتها رغم كل ما يجري يمنح نظام الأسد نوعا من الشرعية والدَّيْن تجاهه بالنسبة لبعض المواطنين السوريين.يبقى السؤال إن كان النظام السوري سيبقى قادرا على فعل هذا طويلا. احتياطه من الذهب قد تم تجاوزه حاليا، من إيران يحصل الأسد على الأقل على مساعدات تناهز الستة ملايير دولار لكن ليس واضحا إن كان ذلك سيكفي لالتزامات أولوية كالأجور والمعاشات وإيفائها.''
الشهادة الثانية لإيرفين فان فيين في الكتاب تقدم ما يلزم لفهم تعقيد الوضع السوريّ الحاليّ والذي لا يمكن فصله عن ارتباط البلد الجغرافي بجيرانه وتاريخ النظام ومخابراته منذ حافظ الأسد إلى الآن فيورد المحلل ما يلي:
عام 1982 عندما سويت حماة بالأرض تم تغييب الإخوان المسلمين حوالي 20 سنة عن مسرح الأحداث. في أواخر التسعينات فقط عادت تلك الشبكات للنشاط مجددا. كانت هناك مساحة أكبر في سوريا لتحمل أفكار أكثر محافظة وتدينا ــ بالطبع تحت مراقبة حريصة من طرف مخابرات النظام السوري. المساحة الجديدة لإعادة إحياء الإسلاميين تم اختلاقها من طرف المخابرات لأنها سلعة مفيدة للتصدير. سوريا حافظ الأسد كانت تقدم كمعادية لإسرائيل ومساندة لفلسطين وكانت تحب أن تظهر نفسها كمناضل من أجل العروبة في المنطقة. حافظ الأسد حرص على أن يكون ما هو شعبيّ بين الناس جزءًا من سياسة البلد وهكذا صارت سوريا ــبالتأكيد في عيونها ــ بطلة من أجل الفلسطينيين و العروبة.
انهيار الاقتصاد في السنوات الأخيرة لحافظ الأسد، الذي توفي عام 2000، ساهم في تحفيز وتنشيط القناعات الدينية المحافظة والمتطرفة لاحقا. الدين مشتت انتباه جيد.
بعد تولي بشار الأسد الحكم مابين 2001و 2002صارت الجماعات الإسلامية المحافظة أكثر قوة لأنها لنموها أصبحت أصعب للتأطير من طرف المخابرات السورية.
المرحلة الثانية كانت عام 2003 عندما غزت أمريكا العراق. بالنسبة للمخابرات الخاضعة للسلطة المباشرة للأسد كانت الفرصة مناسبة جدا لتصدير المشكل الداخلي المتنامي، المتمثل في تزايد أعداد الإسلاميين المحافظين والمتطرفين الذين لايستسيغهم الأسد. عدد كبير من المقاتلين الإسلاميين انتقلوا من سوريا إلى الجارة العراق. أحيانا بدعم تكتيكي من النظام لكن غالبا بترتيب من المخابرات الأسدية وتشجيع ومساعدة. في 2003ـ2004 انتقلت حرفيا حافلات مليئة بمقاتلين سوريين ومقاتلين متطوعين من دول شتى عابرة الحدود السورية للجهاد في العراق. في 2004ـ 2005 ضغطت أمريكا بقوة على سوريا لغلق حدودها المفتوحة على عرضها.
إلى هذا يضاف بعد سقوط صدام حسين وتنصيب جورج بوش لبول بريمر3 كرئيس للإدارة المدنية لإعداد إعمار العراق في 2003 تفكيك الجيش العراقي والشرطة وأجهزة الأمن. في الحقيقة كلما مايلبس زيا رسميا عدا رجال الإطفاء. بمعنى آخر الحدود كانت مفتوحة على عرضها والأجهزة الأمنية الصدامية كانت معظمها مشكلة من السنيين الذين وجدوان نفسهم بدون عمل وبدون مصدر رزق. كان هذا من ضمن الأسباب التي جعلت تجمعات مسلحة من السنة تنشأ في غرب العراق تحارب أمريكا بطريقة حرب العصابات: تفجيرات، قناصة، ..عدد من هؤلاء المقاتلين ظهروا لاحقا في تنظيم الدولة (IS).
....
ليس عجبا أن لايؤتي الضغط الأمريكي على سوريا في تقليص دورها في تمويل الجهاديين أُكله. بالنسبة لأصحاب السلطة في النظام السوري هناك أمور أكبر في اللعبة: مركزهم معرض للخطر.
مثال جيد هو ماحدث عام 2009 فهناك حكايات موثوق فيها عن معسكرات تدريبية للقاعدة في شرق سوريا.حيث يتم التدريب على حرب العصابات وتقنيات المُشاة وكذلك تلقين الدين والشريعة. ومن الواضح أن هذه المعسكرات في أتوقراطية مثل أوتوقراطية الأسد إما مسيرة من طرف النظام أو مسموح لها من طرف الأجهزة الأمنية العسكرية السورية. في نفس العام تمت مقابلة سرية بين رجال الأسد والحزب البعثي العراقي و تنظيم الدولة في العراق ناقشوا فيها تفجيرات في بغداد وماصدر عن المقابلة تم تنفيذه فعليا. مع أن منافسات كبيرة كانت بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق رغم نقط الالتقاء كالعلمانية ومعاداة إسرائيل والعروبية الاجتماعية، إلاّ أن تقاربا وثيقا حدث بعد الغزو الأمريكي للعراق ومعه اقتربت التفجيرات. ثلاث شاحنات مليئة بالمتفجرات حصدت مئات الأرواح في قلب بغداد في مركز قوة الحكومة العراقية وحليفتها أمريكا.''
ينضاف إلى السلوك المخابراتي وألاعيبها التدخلات الكثيرة والضعف وعدم انسجام المعارضة الذي يمكن استعراضه في الآتي:''.الجيش النظامي الذي كان يعادل ثلاثمائة ألف جندي إنكمش لحوالي مائة ألف لكنه يحصل على المساعدة من الحدود اللبنانية من حزب الله بحوالي ثلاثمائة إلى خمسمائة رجل. كما يحصل بمساندة إيران على ميليشيات شيعية من العراق و أفغانستان وباكستان تعدادها حوالي العشرين ألفا. عدد المقاتلين الأجانب في سوريا إلى جانب المتمردين يقدر بين الإثني عشر ألفا والعشرين ألفا غالبهم من تونس والمغرب وليبيا. ومعظمهم في الغالب ناشط مع جبهة النصرة وتنظيم الدولة.
أعداد المقاتلين الأجانب في الجهتين يمكن شطبها بعضها مقابل بعض لكنها توضح إلى حدٍّ ما درجة الصراع وسبب شدّته و عدم تغير الكثير على الجبهات حتّى التدخل الروسي في أكتوبر 2015. هناك تدفق مستقر في المقاتلين والأسلحة.
إذا قلناها بشكل مبسط هناك صراع على القوّة في المنطقة . بين العدوين بالوراثة السعودية وإيران و بالوكالة بين روسيا وأمريكا حول التأثير في المنطقة.
.. احتمال أن يستمر الصراع رغم محاولات الأمم المتحدة لايستهان به. الصراع بين السعودية وإيران يكاد يكون وجوديا. المعارضة متشظية لدرجة أني أصاب بالفضول للمدة الكافية لكي يتم الاتفاق على من سيسمح لهم بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.''

تبدو سوريا في '' حلويات للسيدة أسد '' بلدًا فوق المقارنة بقدمه وتاريخه وغناه وأصالته لكنها في المشهد الحربي تكاد تكون أرمجدون يتقاتل فيها العالم بشرٍّ ومكرٍ.
يصف أحد الموظفين السوريين سوريا بالهولوغرام الذي يكون مايظهر فيه قطا لكنه في الحقيقة نمر وأن الصراع من أجل المال والسلطة. يأسف لأن جواب الرئيس بشار الأسد على مظاهرات الشعب وأوائل الضحايا فيها كان تثمين الشرطة والجيش وعندما يسأله الصحافي عن النمر يجيب بأنّه كرامة الإنسان. الأمر الذي لم يدركه النظام قَطّ.

يغادر روبرت دولمرس دمشق والموالون للنظام مستبشرون بالتدخل الروسي وانقلاب الأوضاع لصالحهم، يترك خلفه أُسَرًا موجوعة ومستفيدين من الحرب. لا ينسى الإشارة للوجود الفعليّ للشبيحة كما قابلهم و لايهمل إباء الصغار السوريين الذين قابلهم يرفضون الصدقة كما تمت تربيتهم على الشموخ لا التسول.
سوريا التي صار مواطنها مهدّدا بالموت والقتل وفقدان كل شيء ستبقى رغم كل شيء أبعد من الأسد . مجتمعها المتحضر القديم كشارع دمشق المستقيم كان وسيبقى هكذا رآها الكاتب وواثقين في عمق تاريخها وحضارتها وإنسانها لا يمكننا أن نراها غير ذلك.

 17-6-16