بداية العالم ليست بيضة--نصيرة تختوخ

  1. ''بداية العالم '' تُحفة فنية ذات شكل بيضوي من إنجاز النحات كونستانتين برانكوزي, لايجب الاستعجال في الحكم عليها شأنها شأن أعمال كثيرة للفنان. ذاك أن التوقف والانتباه يمنحان فرصا أكبر لاستكشاف مايخبئه الشكل وماأملته المادة على نحاتها الذي أنصت إليها بتأنٍّ ولامسها دون فرض رغباته عليها.
    برانكوزي الذي ابتدع نهجا جديدا واختار أن يبتعد عن ظل رودان عرف كيف يجعل قامته تسمو في عالم الإبداع ويلفت عيون العالم التواقة للدهشة إلى ماتباركه يداه. 
    قَصَدَ إبن القرية الرومانية باريس مارًّا بميونيخ مسلحا بموهبته وطموحه ومتحديا لظروفه المادية فلم يقيده التقليد كما لم يعبث بالفرص التي أتيحت له.
    قدم لنا ''بداية العالم'' فبدت كبيضة من البرونز لأول وهلة وكوجه متوازن أملس ولامع بلا ملامح ولاجسد يحمله لمن يطيل النظر أكثر.
    وجه يغري بتأمل البدايات والإصغاء لهمس المادة المتموضعة أخيرا في شكل ناعم ومستقر نراه ونسمع تفكيرنا الداخلي بشأنه. الأمر الذي يتكرر مع منحوتات كثيرة للفنان منها ''الملهمة النائمة'' و''الآنسة پوغاني'' و'' العصفور في الفضاء'' و '' ليدا '' التي خالف بها الأسطورة وجعلها المرأة والبجعة فأنكر على زيوس تحوله لأنه رأى أن جسد المرأة أقرب للتحول الجميل.
    تغيير زاوية النظر ومرونة عدم الاستسلام للتخيل الأول هو الذي تذكرنا به ''ليدا ''مُجَدَّدًا لأن المنحوتة الذهبية اللون تقبل أن تجسد الكائنين معا وتتجاوز رغبة زيوس إلى رغبة برانكوزي.
    سعي الفنان نحو المالانهاية والحركة، تصويره لأعماله واهتمامه بانعكاس الضوء والظل، فلسفته المتمثلة في عدم الانطلاق من التصور بل الوصول إلى الشكل الخارجي الذي يتناغم مع الطاقة الداخلية للمنحوتة وضعوا النحت أمام منعطف لايُوَدِّعُ الجمال ولايستسلم للتجارب الفنية الأخرى كفن تابع بل كفن يواكب المعاصرة بطريقته وطبعه.
    يُعَلِّمُنَا برانكوزي أن الحصول على الجمال البسيط ليس سهلاً وأن احترامه للطبيعة وتناغمها لايتعارض مع الحداثة في شيء. وكما يسمح تنوع منحوتاته بتقسيمها إلى تيمات كالعصافير والنساء والأركان يوحدها في شهادتها على دأبه للوصول إلى جوهر فَنِّه ودفعه إلى الأمام.
    الفنان الذي منحته فرنسا في عقده الأخير الجنسية الفرنسية لتضمه بفخر إلى قائمة فنانيها سيظل يُذَكِّر بأن المبدع ليس من يسقط في فخ التعقيد الباعث على النفور بل من يُحَرِّرُ الجمال مرفوقا بمايحض على التأمل والتفكير.
    سيرة النحات المكللة بالنجاح والشهرة وصية مفتوحة لمن لايجب أن تطوي الظروف والأمكنة قدراتهم ومن تحتاج مواهبهم لأجنحة إراداتهم.
    Nassira 15-2-2014