كائنات الوفاء




اختلفت الروايات حول الراقد في القبر. قال البعض أنه عابر سبيل قتله المجنون وندم على فعلته فظل يزور قبره و يعذب نفسه و قال آخرون أنه مقرب منه ،صديق أو أخ أو حتى أب ربما لم يجده هذا الأخير إلا و قد هلك فلم يطق صبرا على فراقه.
الزهور الزرقاء التي نبتت على القبر وحدها غيرت مجرى الحكايات فصار الحديث عن صاحب القبر حديثا عن حبيبة آفلة نثر المجنون على مقامها الأبدي بذور زهر غاية في الندرة و الجمال .


في المقهى الوحيد في القرية كان الناس يطلقون أعنة ألسنتهم وخيالهم و هم ينظرون إلى حركة المجنون ومروره أمامهم ذهابا وإيابا .
كانوايتحسرون على حاله حينا و يروون ماسمعوا عنه أحيانا كثيرة ,يزيدون على التأويلات تأويلات وعلى التفاسير تعليقات.
صاحب المقهى غالبا ماكان ينفعل وهو يسمع خوضهم في سيرة المجنون و القبر و يقطع حديثهم بملام مفاده أن ثرثرتهم لن تنتهي إلا بفنائهم وأن شغلهم الشاغل نسج التخاريف حول صغائر الأمور وكبائرها.
في اليوم الذي وجد فيه المجنون ممددا تحت شجرة صفصاف باسقة وكأنه يستريح وكانت روحه في الحقيقة قد فارقته، اجتمع وجهاء القرية ليتشاوروا بشأن دفنه و جنازته وكان له أن دفن بجوار القبر الذي استأنس به طويلا وألف صحبته .
ارتفعت أدعية الرحمة و المغفرة من أجله لأسابيع في ربوع القرية و ظن كثيرون أن حكاياته طويت معه لولا أن الزهور الزرقاء التي انتشرت على قبره أيضا أحيت ثرثرة الناس بشأنه والقبر.
زهور لم يتعرف على اسمها أحد .كان أول ظهور لها في القرية على القبر المجهول القديم، كل من كان يزور المقبرة كان ينتبه لجمالها و شكلها الغريب بعضهم شبهها بالطيور وبعضهم قال عنها أنها زهور من حدائق الجنة لكن لاأحد تجرأ على لمسها أو الاقتراب منها ربما هيبة أو ربما تطيرا و خوفا.
ضحك صاحب المقهى العجوز ذات يوم وهو يلتقط النرد الساقط على الأرض و يعيده إلى طاولة اللاعبين و قال:'ماأغربكم تتظاهرون بمحاولة معرفة الحقيقة والحقيقة أنكم أدمنتم الخرافة وماعاد كل ماحولكم من حقائق يشبع فضولكم '.
لم تكن نهاية الفضول على طاولات المقهى وبين جدران البيوت العتيقة وكتب لآفاقها الاتساع .بدا أن الأحاديث عن الزهور الزرقاء و المجنون تنتقل إلى بلدات الجوار.
في البداية كان الزوار المتوافدون على القرية الوادعة من سكان البلدات المجاورة فعلا .كانوا يأتون، يتجولون في الربى والحقول ويتلصصون على القبرين بزهورهما الزرقاء .
بعد ذلك صار منهم المداومون على زيارة السوق الأسبوعي و على حركة البيع و الشراء.
تغيرت الحركة وكثر الزوار واعتاد السكان شيئا فشيئا على كثرة الوافدين و طلباتهم و مايستهويهم.
أدركوا أنهم بكرمهم و جمال الطبيعة من حولهم ومنتوجاتهم وحتى حواديثهم يجذبون و يمتعون و يريحون.
والي الإقليم الذي لم يكونوا يعرفون عنه غير اسمه صار يطل عليهم بين الفينة والأخرى بدعوى تفقد أحوالهم وتدشين مشاريع جديدة وكان يحدث أن يصطحب أفواجا من الأغراب تلاقى بالترحاب و كرم الضيافة المعهود.
تم تسييج المقبرة وأنشئت لها بوابة واسعة ظلت تجد لها فاتحين من غير الراغبين في الترحم على موتاهم .
حكايات المجنون و القبر و الزهور الزرقاء النادرة أبت التلاشي و الذبول ولم يكن ذلك ليضر أحدا.
عندما بدأت طباعة أولى البطاقات البريدية التي تحمل صورا لمناظر من القرية كان من المصورين من اختار أن يلتقط بعدسته صورا للأزهار الواقفة على القبرين كوصيفات حنونات، أنيقات.
كان يحدث أيضا أن يأخذ الفضول و الشغف بعض الرسامين أيضا للجلوس على مشارف المكان الحزين لساعات والخروج بملامح الزهور الزرقاء على لوحاتهم.
لم يعد صاحب المقهى العجوز موجودا ليسخر من تخاريف زبنائه وصار هناك أكثر من مقهى ونادٍ.
كان صيت القرية يذيع وأهلها لا يدركون ذلك تمام الإدراك .
لم يكن لصاحب أبعد وأخصب خيال بينهم أن يتخيل أن رجلا سيستمر أمام لوحة رسمت في قريتهم و يبكي حد الانهيار.
في متحف يبعد عن القرية بآلاف الأميال كان رجل في الأربعينات من عمره يمسح الدموع و الزرقة تملأ عينيه.
إنها الزهور ذاتها التي كانت أمه تحنو عليها و تتطلع إليها و تقول أنها لو نجحت في زراعتها ستكون حققت إنجازا.إنها الكائنات التي سكنت وجدانه مع صورة الأم و الأب والبيت الدافئ .
كان ذلك قبل أن يدخل الغزاة و يدمروا كل شيء، فصلوه عنها و عبثوا بكل أشيائها وأحلامها وأخذوها منه .
انتقل من ملجإ لملجأ و من مدينة لمدينة و من بلد لآخر و ظل القلب هناك في ذلك البيت الذي لم يعرف عن أصحابه وزهوره أدنى خبر , لاحقا, مفرحا كان أو محزنا.
أبوه الذي كان مسافرا ,تراه عاد بعد الكارثة ؟ تراه مات على مشارف البيت بعد أن احتل؟ تراهم أخذوه ؟ وأمه ؟أتكون قتلت أو عاشت معذبة طويلا ؟
تفوق و نجح أحب مقاعد الدراسة و تألق في العمل لكنه لم ينجح أبدا في إيجاد و لو نصف جواب لكل أسئلته تلك.
كانت تدور في خلده , تطارده كالأشباح و الذئاب تغرز هواجسها في أكثر لحظاته رضا وسعادة و اكتمالا.


الزهور الزرقاء منحنية أمامه وكأنها توشوش بحب خجول معهود.
وقفت المشرفة على المعرض تسأله إن كان يريد الاستفسار عن شيء ما و قد انتبهت لوقفته الطويلة .
أخرجته من محراب صمته وقال:' هل من معلومات عن صاحب اللوحة ؟ '.
أجابته أن كل اللوحات الموجودة تم اقتراضها لأسابيع معدودة في إطار تبادل ثقافي لكن بإمكانها طبعا البحث عن اسم الفنان و المزيد من المعلومات عنه لو منحت القليل من الوقت.
ظنت أن إجابتها كافية ورد المتأمل في اللوحة وعيونه تنتقل من الحبيبات الزرقاء إلى محاورته : 'خذي وقتك سيدتي سأعود وأتمنى أن تكوني و فقت وإن شئت أعطيك هذه البطاقة عليها اسمي وعنواني ورقم هاتفي.
اتصلي بي إن أمكن لإعلامي .
سأكون شاكرا ،شاكرا جدا وممتنا بل وراضيا كمن يحقق إنجازا '.
قال ذلك واغرورقت عيناه بالدموع و هي تعانق زرقة البتلات مجددا .


Nassira